أقطاب البيانات: من أرض إلى غيغابايت

الإقطاعيون الرقميون: من حرث الأرض إلى حصاد البيانات
يشكل مشهد الفلاح المصري البسيط، محمد أبو سويلم، في فيلم "الأرض" ليوسف شاهين، رمزاً قوياً لصراعٍ دائمٍ على الموارد. يمدّ أبو سويلم يده المرتجفة، ممسكاً بحفنة تراب أرضه التي تُسلب منه قسراً، رافضاً التخلي عنها. لم تكن الأرض لديه مجرد مصدر رزق، بل كانت هويته، جذوره، وكرامته التي لا تقبل المساومة. يُعيد هذا المشهد، بعد أكثر من نصف قرن، إلى الأذهان صراعاً متجدداً، لكن في ساحةٍ مختلفة تماماً: ساحة البيانات الرقمية.
من أرض الواقع إلى أرض الإنترنت: ولادة الحلم الرقمي وانكساره
لم تعد الأرض ترابًا تحت الأقدام، بل أصبحت رقعة رقمية نعيش ونعمل ونتفاعل من خلالها. الاستيلاء عليها لم يعد يتم بيد سلطةٍ قمعية، بل بخوارزميات خفية تُديرها شركاتٌ عملاقة، تعرف عنّا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. البيانات هي المحصول الجديد، ونحن، المستخدمون، الفلاحون المساكين الذين لا ندرك حجم ما يُسلَب منّا يومياً.
قبل أن تُسيطر علينا مزارع البيانات الضخمة، كان الإنترنت حلماً صغيراً، بدءاً من أول رسالةٍ أُرسلت عبر شبكة "أربانت" (ARPANET) في 29 أكتوبر 1969، والتي لم تصل كاملةً، بل وصل منها حرفان فقط من كلمة "login". كانت هذه البداية المتواضعة لانطلاق ثورة هادئة غيرت وجه العالم.
في عام 1989، ابتكر تيم بيرنرز لي الشبكة العنكبوتية العالمية، وأطلق أول صفحة ويب عام 1991. لم يكن هدفه الربح، بل توفير مساحةٍ مشتركة لتبادل المعرفة، بعيداً عن قيود السوق والسياسة. في ذلك الزمن، وُلد لينكس، وظهرت ويكيبيديا، وازدهرت حركة البرمجيات الحرة. حتى القراصنة الأوائل لم يكونوا مجرمين، بل فلاسفةً رقميين رأوا أن الأنظمة يجب فكّ شيفرتها لفهمها، لا لتخريبها.
كانت الإنترنت آنذاك تُشبه أرضاً مفتوحة، بلا أسوار، بلا ضرائب، بلا حراسٍ أو بوابات. لكنها لم تكن محصّنة من الاستغلال. بدأ الحصاد مبكراً، حين اكتشف البعض إمكانية تخزين الحلم الرقمي وبيعه واحتكاره.
بناء السور حول الأرض الرقمية: ظهور الإقطاع الرقمي
لم ينتبه أحد لبدء بناء أسوار مزارع البيانات الرقمية. كانت التطبيقات سهلة، والخدمات مجانية، والوصول سريعاً. لكن ما بدا حريةً كان في الحقيقة أول سورٍ يُبنى حول "الأرض المفتوحة".
مع دخول الألفية الثالثة، تسارعت التحولات. وُلد فيسبوك عام 2004، ويوتيوب عام 2005، ثم اشترته غوغل عام 2006. غيّر الآيفون عام 2007 علاقة الإنسان بالشبكة، مُدخلاً الإنترنت إلى جيبه. أصبح الجيب المفتوح مغرياً للإقطاعيين الجدد، الذين وجدوا فيه ما هو أغلى من الذهب: بيانات تُحصد بلا جهدٍ يُذكر.
لم تكن هذه ثورةً تقنيةً فقط، بل ثورةً بنيوية. تحولت الشبكة المتفرعة المفتوحة إلى منظومةٍ مغلقةٍ تديرها منصاتٌ عملاقة. بدأ الاستحواذ يبتلع المنافسين: إنستغرام وواتساب تحت مظلة ميتا، أندرويد ويوتيوب ضمن غوغل، أمازون تهيمن على الحوسبة السحابية، ومايكروسوفت تتحول إلى إمبراطورية أعمال.
الأرض الرقمية تحت سيطرة الإقطاعيين: تحليل "الإقطاع التكنولوجي"
بحلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أصبحت الشركات الخمس الكبرى تتحكم بمفاصل الاقتصاد الرقمي. في عام 2023 وحده، قفزت قيمة "الشركات العظيمة السبع" السوقية بأكثر من 800 مليار دولار في أسبوع واحد. هل هذا نموٌ اقتصاديٌ أم احتكارٌ مقنّعٌ؟
الأخطر من الأرقام هو السلطة الجديدة. لم نعد نعيش على الإنترنت، بل نعيش داخله، تماماً كمن يسكن بيتاً لا يملك مفاتيحه ولا يعرف من يراقبه.
يُحلل الاقتصادي الفرنسي سيدريك دوران هذا الواقع بوصفه "إقطاعاً تكنولوجياً"، أو "منطقاً فئوياً جديداً". يرى دوران أن الشركات لم تعد تُنتج بالمعنى الكلاسيكي للرأسمالية، بل تُقيم سورًا حول الأرض الرقمية وتحصل على الريع من كل من يعيش داخلها.
يُلخص هذا المنطق الفئوي في عدة نقاط رئيسية:
الاحتكار الرقمي: سيطرة الشركات التكنولوجية على تدفق المعلومات، وفرض التبعية على المستخدمين والشركات الأخرى.
العلاقة التبعية: اعتماد الأفراد والشركات كلياً على المنصات الرقمية، وصعوبة التحرر من هذه التبعية.
الريع الرقمي: تحقيق الأرباح من خلال امتلاك مواقع استراتيجية في تدفق البيانات، وليس من الإنتاج المباشر.
السيطرة والسلطة: امتلاك الشركات الرقمية سلطةً تتجاوز في بعض الأحيان سلطة الدول، وتتحكم في مصائر المستخدمين.
يُضيف الاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس إلى هذا التحليل، مُميّزاً بين الرأسمالية التي تُحقق الربح والإقطاع الذي يُجني الريع. يقول فاروفاكيس: "في عالم أمازون وغوغل، لم تعد القيمة تُنتج عبر السوق، بل تُستخرج من السيطرة على البنية ذاتها". إنه اقتصاد "الإيجار" لا "التبادل"، حيث لم تعد المنصات تبتكر لتبيع، بل تحتكر لتُؤجر، مُتحوّلةً إلى "إقطاعياتٍ سحابية".
أمثلة على الإقطاع الرقمي: من البنية التحتية إلى البيانات الشخصية
تتجلى سيطرة الإقطاع الرقمي في مجالاتٍ متعددة، منها:
البنية التحتية: هيمنة أمازون، وغوغل، ومايكروسوفت على الحوسبة السحابية.
البيانات الشخصية: امتصاص ميتا وغوغل لبياناتنا، وتشكيل قراراتنا.
الخوارزميات: تحكم خوارزميات تيك توك ويوتيوب بما نراه ومتى، من دون تفسيرٍ واضح.
الاحتكار الناعم: سيطرة آبل على واجهات السوق وفرض نسبها على البائعين.
أصبح المستخدم الفلاح الجديد، لا يرى الأرض التي يعمل فيها، ولا يعرف سيدها. كل ما أمامه شاشة، وخلفها بوابةٌ مغلقة.
الوعي أول الحصاد: محاولات مواجهة الإقطاع الرقمي
في مواجهة هذا الإقطاع الناعم، بدأت بعض الأصوات تعود إلى جذور الحلم الرقمي الأول. يقود الاتحاد الأوروبي ثورةً تشريعيةً مضادة، بقوانين مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) وتشريعات الخدمات الرقمية، مُحاوِلاً كسر احتكار البيانات وإعادة السيادة إلى أصحابها.
هناك دعواتٌ متصاعدةٌ لتفكيك الشركات العملاقة، وفصل خدماتها. على الهامش، تنمو بدائلٌ لامركزية: أنظمةٌ مفتوحة المصدر، وتطبيقاتٌ لا تبيع بياناتك، ومجتمعاتٌ رقميةٌ تؤمن بأن الشفافية ليست خياراً، بل حقاً.
لكن كل هذا لن ينجح بدون إرادةٍ سياسيةٍ، وضغطٍ مجتمعيّ، وتحالفٍ بين من يرفض أن يُحصد بصمت. المسألة لا تتعلق فقط بالتنظيم، بل باستعادة الأرض الرقمية، التي لا تُروى بالماء بل بالمعرفة، ولا تُحرث باليد بل بالوعي.
حفنة التراب الرقمي: استعادة السيطرة على البيانات
في نهاية فيلم "الأرض"، يمدّ أبو سويلم يده نحو التراب وهو يُسحب بعيداً. لا يقاوم بالسلاح، بل بالإصرار على التمسك بحقه. تلك اليد المرتجفة لم تكن ضعيفة، بل كانت آخر جدارٍ في وجه قوة السلب.
اليوم، ونحن نُسحب من أرضنا الرقمية – من بياناتنا، وخصوصيتنا، ووعينا ذاته – يبقى السؤال معلقاً: هل نملك الإصرار نفسه؟ لم تعد الأرض حفنة تراب، بل أصبحت سطراً من الشيفرة، أو سياسة خصوصية مكتوبة بخط صغير، لكنها ما زالت تستحق أن نتمسك بها. لأن من لا يعرف أرضه الرقمية قد لا ينتبه لحظة انتزاعها.