تطور أجهزة Oculus من الأولى حتى Quest 3

شهد عالم الواقع الافتراضي تحولاً جذرياً على مدار العقد الماضي، وكان لشركة Oculus، التي استحوذت عليها فيسبوك (الآن ميتا)، دور محوري في قيادة هذا التطور وإعادة إحياء الاهتمام بالتقنية التي بدت لسنوات طويلة مجرد حلم مستقبلي بعيد المنال. بدأت الرحلة بمشاريع طموحة للمطورين وتوجت بأجهزة مستقلة قوية ومتاحة للمستهلكين على نطاق واسع، لتفتح آفاقاً جديدة للتفاعل الرقمي.
البدايات: عصر Oculus Rift السلكي
انطلقت شرارة الواقع الافتراضي الحديث مع أجهزة Oculus Rift الأولية، بدءاً بنماذج التطوير Developer Kit 1 (DK1) وDK2. كانت هذه النماذج موجهة بالأساس للمطورين والمتحمسين، وسمحت لهم بالبدء في استكشاف إمكانيات الواقع الافتراضي وتطوير المحتوى اللازم له. رغم بساطتها نسبياً، خاصة من حيث دقة الشاشة ومجال الرؤية، إلا أنها أثبتت جدوى التقنية وقدرتها على توفير تجربة غامرة.
Rift CV1: أول جهاز للمستهلكين
في عام 2016، قدمت Oculus أول نسخة موجهة للمستهلكين، Oculus Rift CV1. مثل سابقاتها، كانت هذه النسخة تتطلب الاتصال بجهاز كمبيوتر قوي لتشغيل المحتوى، وكانت تعتمد على مستشعرات خارجية (كاميرات) لتتبع حركة المستخدم في الفراغ. رغم أن هذه المتطلبات جعلت إعداد الجهاز واستخدامه معقداً بعض الشيء ومحدوداً بالمساحة التي تغطيها المستشعرات، إلا أن Rift CV1 مثل قفزة نوعية في الجودة، مقدماً شاشات أفضل وتتبعاً أكثر دقة ووحدات تحكم يدوية (Oculus Touch) أتاحت تفاعلاً طبيعياً مع البيئات الافتراضية. كان الجهاز رائداً في وقته، لكنه ظل نخبوياً إلى حد كبير بسبب تكلفته ومتطلباته التقنية.
التحول نحو الاستقلالية: Oculus Go وQuest 1
أدركت Oculus مبكراً أن الاعتماد على الكمبيوتر الشخصي يشكل حاجزاً كبيراً أمام انتشار الواقع الافتراضي على نطاق واسع. من هنا، بدأت الشركة في استكشاف مسار الأجهزة المستقلة التي لا تتطلب أي أجهزة خارجية للعمل، مما يمنح المستخدم حرية أكبر ويسهل الوصول إلى التقنية.
Oculus Go: البساطة أولاً
في عام 2018، أطلقت Oculus جهاز Oculus Go، الذي مثل خطوة أولى نحو الاستقلالية الكاملة. كان Go جهازاً بسيطاً يعتمد على معالج مخصص للأجهزة المحمولة ولا يتطلب أي اتصال بالكمبيوتر أو مستشعرات خارجية. ركز الجهاز على توفير تجربة واقع افتراضي مريحة للمستهلكين الجدد، مع التركيز على استهلاك المحتوى مثل مشاهدة الأفلام والفيديوهات وتصفح الإنترنت في بيئات افتراضية.
لكن Go كان محدوداً في قدراته، حيث كان يدعم التتبع ثلاثي درجات الحرية (3 DoF)، مما يعني أنه يمكنه تتبع دوران رأس المستخدم فقط، وليس حركته في الفراغ (للأمام والخلف، لأعلى وأسفل، يميناً ويساراً). هذا القيد حد من إمكانيات التفاعل مع البيئات الافتراضية وجعله أقل ملاءمة للألعاب والتطبيقات التي تتطلب حركة جسدية.
Oculus Quest: ثورة الاستقلالية الكاملة
كان الإنجاز الحقيقي في مسار الأجهزة المستقلة هو إطلاق Oculus Quest في عام 2019. مثل Quest قفزة نوعية ضخمة مقارنة بـ Go، حيث قدم تتبعاً سداسي درجات الحرية (6 DoF) دون الحاجة إلى مستشعرات خارجية. استخدم الجهاز تقنية التتبع الداخلي للخارج (inside-out tracking) عبر كاميرات مدمجة على واجهته الخارجية، تقوم بمسح البيئة المحيطة وتحديد موقع المستخدم وحركته بدقة داخل المساحة المتاحة.
لم يتوقف الأمر عند التتبع، بل جاء Quest بمعالج Snapdragon قوي نسبياً قادر على تشغيل ألعاب وتطبيقات واقع افتراضي معقدة، بالإضافة إلى وحدات تحكم Oculus Touch محسنة توفر تفاعلاً طبيعياً مع العالم الافتراضي. كان Quest الجهاز الذي كسر حاجز الاعتماد على الكمبيوتر، مقدماً تجربة واقع افتراضي كاملة ومتحررة، مما جعله شائعاً للغاية بين المستخدمين الجدد والمتحمسين على حد سواء، ومهد الطريق لانتشار الواقع الافتراضي على نطاق أوسع.
العودة للكمبيوتر مع تحسينات: Oculus Rift S
بالتوازي مع مسار الأجهزة المستقلة، لم تتخل Oculus عن سوق الواقع الافتراضي المتصل بالكمبيوتر بشكل كامل. في عام 2019 أيضاً، أطلقت الشركة جهاز Oculus Rift S، والذي كان تحديثاً لجهاز Rift CV1. احتفظ Rift S بالاعتماد على الكمبيوتر الشخصي لتشغيل المحتوى، لكنه استبدل نظام التتبع الخارجي بنظام التتبع الداخلي للخارج المشابه لذلك المستخدم في Quest.
هذا التغيير بسط عملية الإعداد بشكل كبير، حيث لم يعد المستخدم بحاجة إلى وضع مستشعرات في أنحاء الغرفة. كما قدم Rift S شاشة بدقة أعلى ومعدل تحديث أفضل مقارنة بـ CV1. ورغم أنه لم يحقق نفس الزخم الذي حققه Quest المستقل، إلا أنه قدم خياراً جيداً للمستخدمين الذين يمتلكون أجهزة كمبيوتر قوية ويرغبون في الوصول إلى مكتبة ألعاب وتطبيقات الواقع الافتراضي المتوفرة على منصة Oculus Rift.
عصر Quest 2: الواقع الافتراضي للجميع
إذا كان Quest 1 هو الجهاز الذي أثبت جدوى الواقع الافتراضي المستقل، فإن Oculus Quest 2 (الذي أعيد تسميته لاحقاً Meta Quest 2) هو الجهاز الذي جعله متاحاً للملايين. تم إطلاق Quest 2 في أواخر عام 2020، وجاء بسعر أقل بكثير من سابقه، مع تحسينات كبيرة في الأداء والجودة.
تحسينات جوهرية وسعر جذاب
تميز Quest 2 بشاشة ذات دقة أعلى بكثير لكل عين مقارنة بـ Quest 1، مما يوفر صوراً أكثر وضوحاً وتفاصيل أدق. كما تم تزويده بمعالج Snapdragon XR2، وهو معالج أقوى بكثير مصمم خصيصاً للواقع الافتراضي والواقع المعزز، مما سمح بتشغيل ألعاب وتطبيقات أكثر تعقيداً وذات رسوميات أفضل.
إلى جانب الأداء المحسن، جاء Quest 2 بتصميم أخف وزناً وأكثر راحة (مع بعض الملحقات الاختيارية)، ووحدات تحكم Touch محسنة. الأهم من ذلك، أن سعره المنخفض نسبياً جعله في متناول شريحة أوسع من المستهلكين، مما أدى إلى انتشاره بشكل غير مسبوق وجعله الجهاز الأكثر مبيعاً في تاريخ الواقع الافتراضي حتى الآن. لقد أصبح Quest 2 نقطة الدخول الأساسية لمعظم المستخدمين الجدد إلى عالم الواقع الافتراضي.
استكشاف آفاق جديدة: Meta Quest Pro
في عام 2022، كشفت ميتا عن جهاز Meta Quest Pro، الذي لم يكن موجهاً للمستهلك العادي بقدر ما كان يستهدف المحترفين والشركات والمطورين. مثل Quest Pro استعراضاً للتقنيات المستقبلية التي يمكن دمجها في أجهزة الواقع الافتراضي، مع التركيز على الواقع المختلط والإنتاجية.
جاء Quest Pro بتصميم مريح ومفتوح نسبياً لا يحجب الرؤية المحيطية بالكامل، واستخدم عدسات Pancake رفيعة للغاية سمحت بتقليل سمك الجهاز بشكل ملحوظ. لكن أبرز ميزاته كانت كاميرات المرور الملون عالية الدقة (high-resolution color passthrough)، والتي سمحت للمستخدم برؤية العالم الحقيقي من حوله بوضوح أثناء ارتداء الجهاز، ودمج العناصر الافتراضية معه بشكل واقعي لإنشاء تجارب الواقع المختلط (Mixed Reality).
كما تميز Quest Pro بتقنيات متقدمة مثل تتبع العين وتتبع الوجه، مما يسمح للأفاتار الافتراضي للمستخدم بمحاكاة تعابير وجهه وحركة عينيه، مما يعزز التفاعل الاجتماعي في البيئات الافتراضية. رغم سعره المرتفع، قدم Quest Pro لمحة عن مستقبل أجهزة الواقع الافتراضي والواقع المختلط، خاصة في سياقات العمل والتعاون.
قمة التطور حتى الآن: Meta Quest 3
بناءً على النجاح الهائل لـ Quest 2 والتقنيات المستعرضة في Quest Pro، أطلقت ميتا في أواخر عام 2023 جهاز Meta Quest 3، الذي يمثل الجيل الأحدث من أجهزة الواقع الافتراضي المستقلة الموجهة للمستهلكين. جمع Quest 3 بين العديد من التحسينات التي قدمها Quest Pro في حزمة أكثر ملاءمة للمستهلكين وبسعر معقول نسبياً.
مزيج من الأداء والواقع المختلط
التحسين الأبرز في Quest 3 هو دمج عدسات Pancake التي ورثها عن Quest Pro، مما أدى إلى تصميم أنحف وأخف وزناً بكثير مقارنة بـ Quest 2. هذه العدسات توفر أيضاً وضوحاً أفضل عبر مجال الرؤية بالكامل. تم تعزيز الأداء بشكل كبير بفضل معالج Snapdragon XR2 Gen 2 الجديد، والذي يوفر ضعف القوة الرسومية مقارنة بمعالج Quest 2، مما يسمح بتشغيل ألعاب وتطبيقات أكثر تطوراً وجمالاً.
لكن الميزة الأكثر إثارة في Quest 3 هي قدراته المحسنة بشكل كبير في الواقع المختلط. يمتلك الجهاز كاميرتين مرور ملون عالية الدقة توفر رؤية واضحة وملونة للعالم الحقيقي، بالإضافة إلى مستشعر عمق جديد. هذا المستشعر يسمح للجهاز بفهم هندسة الغرفة المحيطة بشكل أفضل وتحديد أماكن الأسطح والأشياء، مما يتيح دمج العناصر الافتراضية في البيئة الحقيقية بطرق أكثر تفاعلية وواقعية، مثل وضع كائنات افتراضية على طاولة حقيقية أو لعب ألعاب تتفاعل مع جدران الغرفة.
التأثير والآفاق المستقبلية
لقد أحدثت أجهزة Oculus/Meta Quest تحولاً جذرياً في مشهد الواقع الافتراضي. لقد انتقلت التقنية من كونها حكراً على المختبرات والمتحمسين الأوائل إلى أجهزة مستقلة قوية ومتاحة لملايين المستخدمين حول العالم. هذا التطور لم يقتصر على الأجهزة نفسها، بل أثر بشكل مباشر على نمو مكتبات المحتوى، من الألعاب الغامرة إلى التطبيقات الاجتماعية والتعليمية والإنتاجية.
كل جيل جديد من هذه الأجهزة يجلب معه تحسينات في الأداء، الوضوح، الراحة، والقدرة على التفاعل مع العالم الرقمي والمادي على حد سواء. مع Quest 3، أصبحت ميتا تركز بشكل متزايد على الواقع المختلط، مما يشير إلى أن مستقبل هذه الأجهزة قد لا يقتصر على الانغماس الكامل في عوالم افتراضية، بل سيمتد ليشمل دمج العناصر الرقمية بسلاسة في حياتنا اليومية.
خلاصة المسيرة التطورية
من نماذج التطوير الأولية التي أشعلت شرارة الاهتمام بالواقع الافتراضي، مروراً بأول جهاز للمستهلكين الذي تطلب كمبيوتراً قوياً، وصولاً إلى الأجهزة المستقلة التي حررت المستخدمين من الأسلاك، شهدت أجهزة Oculus/Meta Quest رحلة تطور مذهلة. كل جهاز في هذه السلسلة بنى على إنجازات سابقه، متغلباً على القيود التقنية وموسعاً نطاق الوصول إلى التقنية. اليوم، مع Meta Quest 3، أصبح الواقع الافتراضي والواقع المختلط أقرب من أي وقت مضى إلى أن يصبحا جزءاً لا يتجزأ من كيفية عملنا، لعبنا، وتواصلنا، مما يعد بمستقبل مثير لهذه التقنية الواعدة.