تلقى الحيرة 780 مليون استفسار الشهر الماضي ، كما يقول الرئيس التنفيذي

Perplexity: محرك بحث الذكاء الاصطناعي الذي يغير قواعد اللعبة ويقترب من مليار استعلام أسبوعياً
مقدمة: ثورة البحث المدعوم بالذكاء الاصطناعي
في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة دافعة لإعادة تشكيل كل جانب من جوانب حياتنا الرقمية. من بين الابتكارات الأكثر إثارة في هذا المجال، يبرز محرك البحث المدعوم بالذكاء الاصطناعي "Perplexity" كلاعب رئيسي يعيد تعريف كيفية تفاعلنا مع المعلومات على الإنترنت. ففي الوقت الذي اعتادت فيه محركات البحث التقليدية على تقديم قائمة من الروابط، يأتي Perplexity ليقدم إجابات مباشرة ومفصلة، مدعومة بمصادر موثوقة، مما يوفر على المستخدمين الوقت والجهد في التنقل بين الصفحات المختلفة.
مؤخراً، أعلن أرافيند سرينيفاس، الرئيس التنفيذي لشركة Perplexity، عن أرقام مذهلة تعكس النمو الهائل الذي تشهده الشركة. فخلال شهر مايو الماضي وحده، استقبل محرك البحث 780 مليون استعلام، وهو رقم يعكس قفزة نوعية في تبني المستخدمين لهذه التقنية الجديدة. هذا النمو ليس مجرد وميض عابر، بل هو جزء من مسار تصاعدي ثابت، حيث يشهد Perplexity نمواً شهرياً يتجاوز 20%. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي مؤشرات قوية على أننا نقف على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخ البحث على الإنترنت، مرحلة يكون فيها الذكاء الاصطناعي هو المحرك الأساسي لتجربة المستخدم.
النمو الصاروخي لـ Perplexity: أرقام تتحدث عن نفسها
إن مسيرة Perplexity منذ تأسيسها في عام 2022 هي قصة نجاح ملهمة في عالم الشركات الناشئة. ففي أول يوم لها، لم يتجاوز عدد الاستعلامات التي تلقاها المحرك 3000 استعلام فقط. اليوم، وبعد أقل من عامين، وصل هذا الرقم إلى 30 مليون استعلام يومياً، مما يترجم إلى نمو مذهل وغير مسبوق. هذا التوسع السريع يعكس قدرة Perplexity على تلبية حاجة حقيقية لدى المستخدمين: الحصول على معلومات دقيقة وموثوقة بسرعة وكفاءة، دون الحاجة إلى غربلة عشرات الروابط.
يُعزى هذا النمو إلى عدة عوامل رئيسية:
- الإجابات المباشرة والموثقة: على عكس محركات البحث التقليدية التي تعرض قائمة من النتائج، يقدم Perplexity إجابة شاملة ومباشرة على استعلام المستخدم، مع توفير روابط للمصادر التي استقى منها المعلومات. هذا يوفر على المستخدمين عناء النقر والتصفح، ويضمن الشفافية والموثوقية.
- التركيز على الدقة والحد من الهلوسة: في ظل التحديات التي تواجه نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة فيما يتعلق بـ "الهلوسة" (أي توليد معلومات غير صحيحة)، يركز Perplexity بشكل كبير على تقديم معلومات دقيقة ومستندة إلى حقائق، مما يبني ثقة المستخدم.
- الواجهة البديهية والتجربة المحسنة: تصميم Perplexity بسيط وواضح، مما يسهل على المستخدمين التفاعل معه والحصول على الإجابات التي يبحثون عنها بسرعة.
- الاستجابة للاستعلامات المعقدة: يتميز Perplexity بقدرته على فهم الاستعلامات المعقدة والطويلة، وتقديم إجابات متماسكة وشاملة، مما يجعله أداة قوية للبحث الأكاديمي والمهني.
ويتوقع سرينيفاس أن يتمكن Perplexity من الوصول إلى مليار استعلام أسبوعياً خلال عام واحد فقط إذا استمر هذا المعدل من النمو. هذا الطموح ليس بعيد المنال بالنظر إلى الإقبال المتزايد على أدوات الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية، ورغبة المستخدمين في تجارب بحث أكثر ذكاءً وكفاءة.
"المذنب" Comet: متصفح يتجاوز المألوف ويعيد تعريف التفاعل الرقمي
لا يقتصر طموح Perplexity على أن يكون مجرد محرك بحث، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تصور تجربة الإنترنت بأكملها. وفي هذا السياق، كشف سرينيفاس عن مشروعهم الطموح لتطوير متصفح جديد يحمل اسم "Comet". هذا المتصفح ليس مجرد إضافة أخرى إلى قائمة المتصفحات الموجودة، بل هو رؤية جديدة لكيفية دمج الذكاء الاصطناعي في صميم تجربتنا الرقمية.
يصف سرينيفاس "Comet" بأنه "نظام تشغيل معرفي" (cognitive operating system)، وهو مصطلح يحمل في طياته الكثير من الدلالات. فبدلاً من أن يكون مجرد أداة لعرض صفحات الويب، يهدف Comet إلى أن يكون مساعداً ذكياً يتواجد معك في كل خطوة على الإنترنت. هذه الرؤية تتضمن:
- الاحتفاظ اللانهائي بالمستخدمين (Infinite Retention): من خلال دمج الذكاء الاصطناعي في كل جزء من المتصفح – شريط البحث، صفحة التبويب الجديدة، الشريط الجانبي (sidecar)، وحتى الصفحات التي تتصفحها – يهدف Comet إلى زيادة عدد الاستعلامات لكل مستخدم نشط بشكل كبير. هذا يعني أن الذكاء الاصطناعي سيكون جزءاً لا يتجزأ من كل تفاعل لك على الإنترنت، مما يزيد من ولاء المستخدم للمنصة.
- الانتقال من الإجابات إلى الإجراءات: هذه هي النقطة المحورية في رؤية Comet. يشرح سرينيفاس أن الحصول على إجابة مدعومة بالذكاء الاصطناعي اليوم يعادل القيام بأربع أو خمس عمليات بحث يدوية. لكن متصفح Comet يهدف إلى تمكين الذكاء الاصطناعي من "تنفيذ الإجراءات" نيابة عنك. تخيل أنك ترغب في التخطيط لرحلة؛ بدلاً من البحث عن الفنادق والطيران والأنشطة بشكل منفصل، يمكنك ببساطة إعطاء Comet أمراً واحداً ليقوم هو بإنجاز جلسة تصفح كاملة نيابة عنك، من البحث إلى الحجز. هذا يمثل قفزة نوعية في كفاءة التفاعل الرقمي.
- دمج الحوسبة السلس (Seamless Hybridization of Compute): لتحقيق هذا المستوى من التفاعل، يؤكد سرينيفاس على ضرورة دمج الحوسبة بين جانب العميل (جهاز المستخدم) وجانب الخادم (سحابة Perplexity) بأكثر الطرق سلاسة ممكنة. هذا يتطلب إعادة التفكير في بنية المتصفح بالكامل، ليصبح منصة قادرة على معالجة المهام المعقدة بذكاء وفعالية.
إعادة تعريف تجربة الإنترنت: من التصفح إلى العيش الرقمي
تطمح Perplexity من خلال متصفح Comet إلى تغيير مفهومنا الأساسي عن الإنترنت. ففي الماضي، كنا "نتصفح" الإنترنت، أي ننتقل بين الصفحات ونبحث عن المعلومات. لكن سرينيفاس يرى أننا اليوم "نعيش" على الإنترنت، حيث أصبح جزء كبير من حياتنا اليومية، سواء العمل أو الحياة الشخصية، يحدث في الفضاء الرقمي.
إذا أردنا بناء ذكاء اصطناعي استباقي وشخصي حقاً، فإنه يحتاج إلى أن "يعيش" معنا، أن يكون جزءاً لا يتجزأ من تجربتنا اليومية، وليس مجرد أداة نستخدمها عند الحاجة. هذا هو جوهر رؤية Comet: أن يكون نظاماً ذكياً يتواجد دائماً، سواء في العمل أو في الحياة الشخصية، كرفيق رقمي يساعدك على إنجاز المهام، ويقدم لك المعلومات ذات الصلة بشكل استباقي.
على سبيل المثال، يمكن لـ Comet أن يساعدك في:
التخطيط المعقد: بدلاً من البحث عن "أفضل مطاعم المأكولات الإيطالية في الرياض" ثم "حجز طاولة"، يمكنك ببساطة أن تطلب من Comet "احجز لي مطعماً إيطالياً جيداً لشخصين في الرياض مساء الجمعة".
إدارة المهام: يمكن للمتصفح أن يساعدك في تنظيم جدول أعمالك، البحث عن معلومات لمشروع، أو حتى مساعدتك في التسوق عبر الإنترنت، كل ذلك من خلال واجهة واحدة مدعومة بالذكاء الاصطناعي.
التعلم والتطوير: تخيل متصفحاً يتعلم اهتماماتك ويقدم لك مقالات أو دورات تدريبية ذات صلة بشكل استباقي، أو يلخص لك محتوى صفحات الويب الطويلة في نقاط رئيسية.
هذا التحول من متصفح سلبي إلى نظام تشغيل معرفي نشط يمثل نقلة نوعية قد تغير طريقة تفاعلنا مع الإنترنت بشكل جذري.
نموذج الأعمال والإعلانات: خطى على درب عمالقة التكنولوجيا
إلى جانب الرؤية التقنية الطموحة، تطرق سرينيفاس إلى جانب بالغ الأهمية: نموذج الأعمال. ففي أبريل الماضي، أشار سرينيفاس إلى أن أحد أسباب تطوير Perplexity لمتصفحها الخاص هو تتبع نشاط المستخدمين خارج تطبيقها الأساسي، وذلك بهدف بيع إعلانات مميزة. هذا النموذج يحاكي بشكل أساسي ما قامت به شركة جوجل بهدوء لتصبح عملاق التكنولوجيا الذي نعرفه اليوم.
تعتمد جوجل بشكل كبير على جمع بيانات المستخدمين من خلال متصفحها Chrome وخدماتها المختلفة لتقديم إعلانات مستهدفة وذات قيمة عالية للمعلنين. Perplexity تسعى لتبني استراتيجية مماثلة، ولكن مع اختلاف جوهري: فبدلاً من البحث التقليدي الذي يعتمد على الكلمات المفتاحية، يمكن لمتصفح Comet، بصفته "نظام تشغيل معرفي"، أن يفهم السياق الكامل لنشاط المستخدم واهتماماته بشكل أعمق بكثير. هذا الفهم الشامل يمكن أن يتيح لـ Perplexity تقديم إعلانات أكثر دقة وفعالية، مما يجذب المعلنين ويزيد من إيرادات الشركة.
بالطبع، يثير هذا النهج تساؤلات حول خصوصية المستخدمين. ففي الوقت الذي يسعى فيه العديد من المستخدمين إلى حماية بياناتهم، قد يكون تتبع النشاط عبر المتصفح بأكمله مصدر قلق. سيتعين على Perplexity أن تجد توازناً دقيقاً بين تقديم تجربة ذكاء اصطناعي شخصية وفعالة، وبين الحفاظ على ثقة المستخدمين فيما يتعلق بخصوصية بياناتهم. الشفافية في سياسات البيانات وخيارات التحكم للمستخدم ستكون حاسمة في بناء هذه الثقة.
التحديات والفرص في سوق الذكاء الاصطناعي التنافسي
لا شك أن Perplexity تعمل في سوق شديد التنافسية. فعمالقة التكنولوجيا مثل جوجل ومايكروسوفت (مع Bing و Copilot) يستثمرون مليارات الدولارات في تطوير قدرات البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي. كما أن هناك لاعبين آخرين مثل OpenAI و Anthropic يقدمون نماذج لغوية قوية يمكن استخدامها لأغراض البحث.
ومع ذلك، تمتلك Perplexity عدة نقاط قوة:
التركيز المتخصص: بدلاً من محاولة أن تكون "كل شيء لكل الناس"، تركز Perplexity على تقديم تجربة بحث دقيقة وموثقة، مما يميزها عن المنافسين.
السرعة في الابتكار: كشركة ناشئة، تتمتع Perplexity بالمرونة والقدرة على الابتكار بسرعة أكبر من الشركات الكبرى.
الرؤية الجريئة: فكرة "نظام التشغيل المعرفي" ليست مجرد تحسين تدريجي، بل هي محاولة لإعادة تعريف فئة كاملة من المنتجات، مما قد يمنحها ميزة تنافسية كبيرة إذا نجحت في تنفيذها.
التحديات التي تواجه Perplexity تشمل:
جذب المستخدمين لمتصفح جديد: تغيير عادات المستخدمين الراسخة في استخدام متصفحات مثل Chrome أو Safari مهمة صعبة للغاية. سيتطلب الأمر تقديم قيمة مضافة استثنائية لإقناعهم بالتحول.
الموارد المالية والبنية التحتية: تشغيل محرك بحث مدعوم بالذكاء الاصطناعي ومتصفح متكامل يتطلب موارد حوسبة هائلة واستثمارات ضخمة.
الحفاظ على الجودة والدقة: مع تزايد عدد الاستعلامات، سيتعين على Perplexity ضمان الحفاظ على دقة وجودة الإجابات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي.
الآفاق المستقبلية لـ Perplexity وتأثيرها على المستخدم العربي
لم يتم الكشف عن الموعد الدقيق لإطلاق متصفح Comet، لكن سرينيفاس صرح سابقاً على منصة X (تويتر سابقاً) بأنه سيتم إطلاقه في الأسابيع القادمة. هذا الإطلاق المرتقب قد يمثل نقطة تحول ليس فقط لـ Perplexity، بل لمستقبل التفاعل مع الإنترنت ككل.
بالنسبة للمستخدم العربي، فإن ظهور أدوات مثل Perplexity ومتصفح Comet يحمل في طياته فرصاً واعدة:
تحسين الوصول إلى المعرفة: القدرة على الحصول على إجابات دقيقة وموثقة باللغة العربية، مع إمكانية فهم السياق الثقافي واللغوي، يمكن أن يثري تجربة البحث للمستخدمين في المنطقة.
زيادة الإنتاجية: سواء للطلاب، الباحثين، أو المهنيين، فإن متصفحاً قادراً على تنفيذ الإجراءات وإنجاز المهام بذكاء يمكن أن يوفر ساعات طويلة من العمل اليدوي.
دفع عجلة الابتكار المحلي: يمكن لنجاح Perplexity أن يلهم الشركات الناشئة والمطورين في العالم العربي لاستكشاف فرص جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته.
تخصيص التجربة: مع تزايد اعتمادنا على الإنترنت في حياتنا اليومية، فإن وجود ذكاء اصطناعي يتفهم احتياجاتنا الشخصية ويكون استباقياً في تقديم المساعدة، سيجعل التجربة الرقمية أكثر سلاسة وفعالية.
خاتمة: نحو إنترنت أكثر ذكاءً وفعالية
إن الأرقام التي أعلن عنها الرئيس التنفيذي لـ Perplexity ليست مجرد إحصائيات لشركة ناشئة؛ إنها إشارة واضحة إلى التحول الجذري الذي يشهده عالم البحث على الإنترنت. فمنذ عقود، كانت جوجل هي البوابة الرئيسية للمعرفة الرقمية، لكن Perplexity تقدم رؤية بديلة: محرك بحث لا يكتفي بتقديم الروابط، بل يقدم المعرفة مباشرة، مدعومة بالذكاء الاصطناعي.
ومع إطلاق متصفح Comet، تتجه Perplexity نحو طموح أكبر: تحويل المتصفح من مجرد أداة إلى نظام تشغيل معرفي، رفيق رقمي يعيش معنا على الإنترنت، ويساعدنا في إنجاز المهام المعقدة بلمسة زر واحدة. هذه الرؤية، إن تحققت، لن تغير فقط طريقة بحثنا عن المعلومات، بل ستعيد تعريف مفهوم "العيش على الإنترنت" ذاته، وتجعل تجربتنا الرقمية أكثر ذكاءً، كفاءة، وتخصيصاً. يبقى أن نرى كيف ستتفاعل السوق مع هذا الابتكار، وما إذا كان "المذنب" Comet سيتمكن فعلاً من إحداث تأثير زلزالي في مشهد التكنولوجيا العالمي.