توسيع وول مارت وجناح تسليم الطائرات بدون طيار إلى خمس مدن أمريكية أخرى

وول مارت و"وينج" يحلقان بخدمة التوصيل بالدرونز: قفزة نوعية في مستقبل التجارة الإلكترونية

المقدمة: سماء التجارة تتبدل

في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتزايد فيه متطلبات المستهلكين، لم يعد مفهوم "الراحة" مجرد رفاهية، بل أصبح ضرورة تنافسية حاسمة في قطاع التجزئة. ومع كل ابتكار تقني يلوح في الأفق، تتسابق الشركات الكبرى لتبني الحلول التي تعد بتغيير قواعد اللعبة. وفي هذا السياق، تبرز الشراكة بين عملاق التجزئة الأمريكي "وول مارت" (Walmart) وشركة "وينج" (Wing) الرائدة في مجال التوصيل بالدرونز، المملوكة لشركة "ألفابت" (Alphabet)، كنموذج رائد لمستقبل التجارة الإلكترونية.

أعلنت الشركتان مؤخرًا عن خطط طموحة لتوسيع نطاق خدمة التوصيل بالدرونز لتشمل أكثر من 100 متجر من متاجر وول مارت في خمس مدن أمريكية جديدة: أتلانتا، شارلوت، هيوستن، أورلاندو، وتامبا. ولم يقتصر التوسع على المدن الجديدة فحسب، بل شمل أيضًا تعزيز عمليات التوصيل بالدرونز في سوق دالاس-فورت وورث، الذي كان بمثابة نقطة الانطلاق الأولى لهذه الخدمة الثورية. هذا التوسع الكبير ليس مجرد خطوة إضافية، بل هو إشارة واضحة إلى الثقة المتزايدة التي توليها "وول مارت" لتقنية التوصيل بالدرونز كجزء أساسي من استراتيجيتها لإعادة تعريف تجربة التسوق والارتقاء بها إلى مستويات غير مسبوقة من السرعة والسهولة.

من التجريب إلى التوسع التجاري: رحلة "وينج" و"وول مارت"

لم تكن الشراكة بين "وول مارت" و"وينج" وليدة اللحظة، بل هي نتاج سنوات من البحث والتطوير والتجريب. فـ"وينج"، التي نشأت من مختبرات "ألفابت إكس" (Alphabet X) التجريبية التابعة لـ"ألفابت" (الشركة الأم لجوجل)، بدأت رحلتها كفكرة جريئة لتسخير الطائرات بدون طيار في خدمة التوصيل. وبعد سنوات من العمل الدؤوب على تطوير تقنيات الطيران الذاتي وإدارة حركة المرور الجوي للدرونز، أصبحت "وينج" جاهزة للانتقال من مرحلة المختبر إلى الساحة التجارية.

في عام 2023، بدأت "وينج" شراكتها مع "وول مارت" من خلال إطلاق برنامج تجريبي في متجرين بمنطقة دالاس الحضرية. كان الهدف من هذا البرنامج هو اختبار جدوى وفعالية التوصيل بالدرونز عند الطلب، وقد أظهرت النتائج الأولية نجاحًا كبيرًا، حيث تمكنت الخدمة من الوصول إلى حوالي 60 ألف منزل في المنطقة. وبفضل هذا النجاح، توسعت العمليات لتشمل 18 متجرًا من متاجر "وول مارت سوبر سنتر" (Walmart Supercenters) في دالاس-فورت وورث.

يمثل التوسع الأخير الذي أُعلن عنه قفزة نوعية، حيث يشكل زيادة تقارب خمسة أضعاف في عمليات "وينج" مع "وول مارت". وفي تصريح لآدم وودوورث، الرئيس التنفيذي لشركة "وينج"، لمجلة "تك كرانش" (TechCrunch)، أكد أن الشركة قد تجاوزت "مرحلة التجريب والاختبار، وانتقلت إلى مرحلة توسيع نطاق هذا العمل". وأضاف وودوورث: "لقد كنا دائمًا من النوع الذي يرغب في إنجاز الأمور بشكل جيد والبقاء مركزين. وهذه هي الخطوة الكبيرة التالية. إنها خطوة أكبر بكثير مما اتخذناه من قبل."

هذا التحول من التجريب إلى التوسع التجاري يؤكد نضج التكنولوجيا وثقة الشركاء في قدرتها على تحقيق قيمة حقيقية على نطاق واسع. فبرنامج دالاس-فورت وورث التجريبي، وكيفية توسيعه، كان له دور محوري في تشكيل استراتيجية "وينج" للتوصيل بالدرونز في قطاع التجزئة. "لقد اكتشفنا كيف سار التوسع وبدا في دالاس-فورت وورث، والآن نقوم بنسخ ولصق ذلك عبر المزيد من الأسواق،" كما أوضح وودوورث.

لماذا الدرونز؟ المزايا التنافسية للتوصيل الجوي

إن قرار "وول مارت" بالاستثمار بقوة في التوصيل بالدرونز ليس مجرد مواكبة للتقنيات الحديثة، بل هو جزء من رؤية أوسع لإعادة تعريف تجربة التسوق. يرى جريج كاثي، النائب الأول لرئيس قسم التحول والابتكار في "وول مارت" بالولايات المتحدة، أن التوصيل بالدرونز سيظل جزءًا أساسيًا من "التزام الشركة بإعادة تعريف التجزئة". وأضاف كاثي في مدونة نُشرت مؤخرًا: "نحن ندفع حدود الراحة لخدمة عملائنا بشكل أفضل، مما يجعل التسوق أسرع وأسهل من أي وقت مضى."

تتمتع خدمة التوصيل بالدرونز بالعديد من المزايا التنافسية التي تجعلها خيارًا جذابًا لشركات التجزئة والخدمات اللوجستية:

  1. السرعة الفائقة: يمكن للدرونز تجاوز الازدحام المروري والمسارات الأرضية المعقدة، مما يتيح توصيل الطلبات في دقائق معدودة بدلاً من ساعات. هذه السرعة تلبي توقعات المستهلكين المتزايدة للحصول على المنتجات بشكل فوري. تخيل أنك تحتاج إلى دواء طارئ أو مكون غذائي نسيته للتو، وأن الدرون يوصله إليك في أقل من 30 دقيقة.
  2. الكفاءة التشغيلية: بفضل الأتمتة العالية، تقل الحاجة إلى العنصر البشري في عملية التوصيل، مما يقلل من الأخطاء ويزيد من دقة التسليم. كما أن الدرونز تستهلك طاقة أقل مقارنة بالمركبات التقليدية، خاصة في المسافات القصيرة.
  3. الاستدامة البيئية: تعتمد معظم درونز التوصيل على الطاقة الكهربائية، مما يعني انبعاثات كربونية صفرية. هذا يتماشى مع التوجهات العالمية نحو حلول لوجستية أكثر صداقة للبيئة ويساهم في تقليل البصمة الكربونية لشركات التجزئة.
  4. الوصول إلى المناطق الصعبة: يمكن للدرونز الوصول إلى المناطق التي قد تكون صعبة أو مكلفة للوصول إليها بواسطة المركبات الأرضية، مثل المناطق الريفية أو الضواحي ذات الطرق غير الممهدة.
  5. تقليل التكاليف على المدى الطويل: على الرغم من التكاليف الأولية لتطوير ونشر البنية التحتية للدرونز، إلا أن نموذج "وينج" يركز على بناء أعمال تتمحور حول طائرات صغيرة وخفيفة الوزن ومؤتمتة ومنخفضة التكلفة. وهذا يقلل من التكاليف التشغيلية الثابتة المرتبطة بالأصول المادية مثل عمليات الطيران والتدريب على المدى الطويل.

التحديات في سماء التوصيل بالدرونز

على الرغم من الإمكانات الهائلة، تواجه خدمة التوصيل بالدرونز عددًا من التحديات التي يجب التغلب عليها لضمان تبنيها على نطاق واسع:

  1. اللوائح التنظيمية والتشريعات: تُعد القوانين المنظمة لاستخدام المجال الجوي للطائرات بدون طيار من أكبر العقبات. فكل دولة، بل كل ولاية أو مدينة في بعض الحالات، لديها مجموعة مختلفة من القواعد المتعلقة بالارتفاعات المسموح بها، المناطق المحظورة، وزن الحمولة، وشهادات التشغيل. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، تلعب إدارة الطيران الفيدرالية (FAA) دورًا حاسمًا في تحديد هذه القواعد، وتتطلب التوسع في المدن الجديدة موافقات معقدة.
  2. السلامة والأمن: يثير تحليق عدد كبير من الدرونز فوق المناطق السكنية مخاوف بشأن السلامة العامة، بما في ذلك احتمالية سقوط الدرونز أو الاصطدام بها. كما أن هناك تحديات أمنية تتعلق بحماية الدرونز من الاختراق أو الاستخدام غير المصرح به.
  3. الضوضاء والقبول المجتمعي: يمكن أن تسبب الدرونز ضوضاء، خاصة في المناطق السكنية الهادئة. يتطلب القبول المجتمعي لهذه الخدمة معالجة هذه المخاوف وتثقيف الجمهور حول فوائدها وسلامتها.
  4. قيود الحمولة: لا تزال الدرونز الحالية قادرة على حمل أوزان محدودة نسبيًا، مما يقيد أنواع المنتجات التي يمكن توصيلها. هذا يعني أنها مناسبة بشكل أساسي للطرود الصغيرة والخفيفة، مثل الأدوية، الوجبات السريعة، أو بعض منتجات البقالة.
  5. الظروف الجوية: تتأثر عمليات الدرونز بشكل كبير بالظروف الجوية السيئة مثل الأمطار الغزيرة، الرياح القوية، أو العواصف الثلجية. هذا يعني أن الخدمة قد لا تكون متاحة في جميع الأوقات أو في جميع المناطق.
  6. البنية التحتية الأرضية: على الرغم من أن الدرونز تطير في السماء، إلا أنها تحتاج إلى بنية تحتية أرضية للدعم، مثل محطات الشحن، ومناطق الإقلاع والهبوط الآمنة في المتاجر أو المستودعات.

نموذج "وينج" التشغيلي: الكفاءة أولاً

تدرك "وينج" هذه التحديات جيدًا، وتركز استراتيجيتها على التغلب عليها من خلال نموذج تشغيلي فريد يركز على الكفاءة والتحكم في التكاليف. يهدف آدم وودوورث إلى بناء عمل تجاري يتمحور حول "طائرات صغيرة وخفيفة الوزن ومؤتمتة ومنخفضة التكلفة". وهذا المفهوم هو جوهر استراتيجية "وينج" لتحقيق الربحية على المدى الطويل.

أحد التحديات الرئيسية التي تسعى "وينج" للتغلب عليها هو كيفية توسيع نطاق عدد الدرونز والرحلات دون الحاجة إلى إضافة المزيد من الموظفين بشكل متناسب. هناك تكاليف تشغيلية ثابتة مرتبطة بهذه الأصول المادية، مثل عمليات الطيران وتدريب الموظفين. ولهذا، فإن "وينج" تسعى إلى تحقيق أقصى استفادة من كل درون ومسار طيران.

يقول وودوورث: "كلما زادت الأماكن التي يمكنك العمل فيها، وكلما زاد عدد الرحلات التي يمكنك القيام بها، زادت قدرتك على تغطية تلك التكاليف. هذه خطوة مهمة في هذا الاتجاه." وتعمل "وينج" جاهدة للحفاظ على مواردها البشرية ثابتة نسبيًا مع استمرار ارتفاع حجم العمليات. هذا النهج يعكس إيمان الشركة بأن الأتمتة والذكاء الاصطناعي يمكن أن يلعبا دورًا محوريًا في تحقيق الكفاءة المطلوبة للوصول إلى الربحية.

شراكات استراتيجية: "دورداش" والتوسع في قطاع المطاعم

لا تقتصر طموحات "وينج" على قطاع التجزئة بالتعاون مع "وول مارت" فحسب، بل تمتد لتشمل قطاع توصيل الطعام والمطاعم من خلال شراكتها مع شركة "دورداش" (DoorDash) العملاقة. بدأت الشركتان تعاونهما في عام 2022 بإطلاق خدمات التوصيل بالدرونز في أستراليا، ومنذ ذلك الحين توسع نطاق العمل المشترك ليشمل دالاس-فورت وورث، ومؤخرًا مدينة شارلوت.

هذه الشراكة مع "دورداش" تبرز مرونة تقنية "وينج" وقدرتها على التكيف مع أنواع مختلفة من السلع والخدمات. فبينما تركز "وول مارت" على توصيل منتجات البقالة والسلع الاستهلاكية، تفتح "دورداش" الباب أمام سوق توصيل الوجبات السريعة، وهو سوق ضخم يتطلب سرعة فائقة ودقة في التوصيل للحفاظ على جودة الطعام. هذا التنوع في الشراكات والقطاعات المستهدفة يعزز من مكانة "وينج" كلاعب رئيسي في مستقبل التوصيل اللوجستي.

الآفاق المستقبلية للتوصيل بالدرونز في المنطقة العربية

بالنظر إلى التوسع الكبير في الولايات المتحدة، يطرح السؤال نفسه: ما هي آفاق التوصيل بالدرونز في المنطقة العربية؟ تتميز العديد من دول المنطقة، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بتبنيها السريع للتقنيات الحديثة واستثماراتها الضخمة في مشاريع المدن الذكية والبنية التحتية الرقمية.

المدن الذكية والمشاريع الكبرى: مشاريع مثل "نيوم" (NEOM) في السعودية، و"مدينة دبي الذكية" (Dubai Smart City) في الإمارات، توفر بيئة خصبة لتجربة وتبني تقنيات التوصيل بالدرونز. هذه المدن مصممة لتكون مراكز للابتكار والتكنولوجيا، مما يجعلها مرشحًا مثاليًا لاستضافة شبكات توصيل جوية متكاملة.
نمو التجارة الإلكترونية: يشهد سوق التجارة الإلكترونية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نموًا مطردًا، مدفوعًا بارتفاع معدلات انتشار الإنترنت والهواتف الذكية. هذا النمو يخلق طلبًا متزايدًا على حلول التوصيل السريعة والفعالة، والتي يمكن للدرونز أن تلبيها بامتياز.
تحديات "الميل الأخير": في المدن العربية المزدحمة، يمثل "التوصيل للميل الأخير" (Last-Mile Delivery) تحديًا لوجستيًا كبيرًا بسبب الازدحام المروري وصعوبة الوصول إلى بعض المناطق. يمكن للدرونز أن تقدم حلاً جذريًا لهذه المشكلة، مما يقلل من أوقات التسليم وتكاليف التشغيل.
الظروف المناخية: على الرغم من الفرص، يجب مراعاة التحديات المناخية في المنطقة، مثل درجات الحرارة المرتفعة والعواصف الرملية، والتي قد تؤثر على أداء الدرونز وعمر بطارياتها. يتطلب ذلك تطوير درونز مصممة خصيصًا لتحمل هذه الظروف القاسية.
اللوائح المحلية: ستحتاج الحكومات والهيئات التنظيمية في المنطقة إلى تطوير أطر قانونية واضحة ومنظمة لتمكين التشغيل الآمن والفعال لخدمات التوصيل بالدرونز، مع مراعاة قضايا السلامة والخصوصية والأمن.

الخاتمة: مستقبل على بعد تحليق درون

إن توسع "وول مارت" و"وينج" في مجال التوصيل بالدرونز يؤكد أن هذه التكنولوجيا لم تعد مجرد مفهوم مستقبلي في أفلام الخيال العلمي، بل أصبحت واقعًا تجاريًا يتطور بسرعة. إنها تمثل تحولًا نموذجيًا في كيفية تفاعل المستهلكين مع المتاجر، وتقدم مستويات غير مسبوقة من الراحة والسرعة.

مع استمرار الشركات في إتقان الجوانب التشغيلية والمالية، وتكيف اللوائح التنظيمية مع هذه التطورات، من المتوقع أن تصبح الدرونز جزءًا لا يتجزأ من المشهد اللوجستي العالمي. وفي المنطقة العربية، التي تسعى جاهدة لتبني الابتكار والتحول الرقمي، يمكن أن يكون التوصيل بالدرونز محركًا رئيسيًا للنمو في قطاع التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجستية، مما يفتح آفاقًا جديدة للمستهلكين والشركات على حد سواء. إنها ليست مجرد طائرات تحلق في السماء، بل هي أجنحة تحمل معها مستقبلًا أكثر ذكاءً وكفاءة وسهولة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى