تينسنت: من شنجن إلى الخليج



من شنجن إلى الخليج: كيف تُعيد تينسنت صياغة المشهد الرقمي العربي؟

تُشهد منطقة الخليج العربي تحولاً رقمياً متسارعاً، مدفوعاً برؤى اقتصادية طموحة تهدف إلى بناء مدن ذكية واقتصادات رقمية متقدمة. وفي هذا السباق نحو المستقبل، لا تقتصر المنافسة على عمالقة التكنولوجيا الغربية فحسب، بل برزت أيضاً شركات آسيوية رائدة، أبرزها شركة تينسنت الصينية، والتي تُرسخ حضورها بقوة في المنطقة، حاملة معها خبراتها الواسعة في الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، وتطبيقات الجيل التالي. يُسلط هذا المقال الضوء على استراتيجية تينسنت في منطقة الخليج، وكيف تُسهم في تشكيل مستقبلها الرقمي.

تينسنت تُطلق منطقتها السحابية في قلب المملكة العربية السعودية

تُعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر المناطق استعداداً لتبني تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، وهي أدوات محورية تُمكن دول الخليج من تحقيق أهدافها في بناء مدن ذكية واقتصادات رقمية مستدامة. ويُؤكد السيد دان هو، نائب رئيس تينسنت السحابية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على هذا التحول قائلاً: "يشهد الخليج تحولاً رقمياً هائلاً، ونحن حريصون على أن نكون شركاء في هذه الرحلة، ونُقدم حلولاً سحابية متطورة تدعم هذا النمو".

سوق واعد: أرقام تُبرز حجم الفرص

تُشير التوقعات إلى نمو هائل في سوق الذكاء الاصطناعي في المنطقة. ففي الإمارات العربية المتحدة وحدها، يُتوقع أن يصل حجم السوق إلى 54.7 مليار دولار بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب يتجاوز 45%. كما تُعتبر رؤية المملكة العربية السعودية 2030 التحول الرقمي ركيزة أساسية لتحقيق أهدافها التنموية. أما قطر، فقد استثمرت مبالغ طائلة في إنشاء منظومة ذكاء اصطناعي متكاملة، تتجاوز قيمتها 5.66 مليارات دولار بحلول عام 2025.

الرياض مركزاً للابتكار: إطلاق أول منطقة سحابية لتينسنت في الشرق الأوسط

في هذا السياق، أعلنت تينسنت السحابية عن إطلاق أول منطقة سحابية لها في الشرق الأوسط، اختارت المملكة العربية السعودية لتكون نقطة انطلاقها. ويُمثل هذا الاستثمار، الذي يتجاوز 150 مليون دولار، التزاماً طويل الأمد من تينسنت لبناء بنية تحتية سحابية متطورة، تُقدم خدمات متقدمة في مجال الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي. تضم المنطقة مركز بيانات متطوراً مزوداً بـ "مناطق توافر" متعددة، ونظام تكرار بيانات متكامل، يضمن أعلى مستويات الموثوقية والأمان.

تمكين القطاعات الحيوية: خدمات متقدمة تدعم التحول الرقمي

يُؤكد السيد دان هو أن المنطقة السحابية الجديدة في السعودية ستُمكن الشركات في المملكة والمنطقة من الاستفادة من الفرص الرقمية المتاحة في قطاعات حيوية، مثل الوسائط الرقمية، والبث المباشر، وألعاب الفيديو، والرياضات الإلكترونية، والتجارة الإلكترونية، والسياحة، والخدمات المالية، والاتصالات. وستُقدم المنطقة خدمات متطورة تشمل حلول البرمجيات، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتحليلات المتقدمة، وتقنيات الوسائط الرقمية.

تجربة "وي شات" تصل إلى الخليج: منصّة "سوبرآب- آز- إيه- سيرفيس"

تُعتبر التطبيقات الفائقة (Super Apps) من أبرز الاتجاهات الرقمية التي تشهد نمواً متسارعاً في منطقة الخليج. فهي تُقدم تجربة رقمية متكاملة تُدمج خدمات متعددة ضمن تطبيق واحد، مما يُسهل على المستخدمين الوصول إلى الخدمات المختلفة دون الحاجة للتنقل بين تطبيقات متعددة. ويُشبه هذا النموذج تطبيق "وي شات" الصيني، الذي يُستخدم من قبل أكثر من مليار مستخدم.

مستقبل الخدمات الرقمية: الانتقال نحو التطبيقات المتكاملة

تُشير تقديرات شركة غارتنر إلى أن أكثر من 50% من سكان العالم سيستخدمون التطبيقات الفائقة بحلول عام 2027. وفي هذا السياق، أطلقت تينسنت السحابية منصتها "سوبرآب- آز- إيه- سيرفيس" (SuperApp-as-a-Service) لدعم التحول الرقمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتُقدم هذه المنصة حلولاً تقنية تُمكّن الشركات من تحويل تطبيقات الويب والهواتف المحمولة إلى تطبيقات مصغّرة خفيفة الوزن، يمكن تشغيلها ضمن أي بنية تحتية سحابية.

التعاون مع "e&": بناء "سوبر مول" رقمي

تُطبق تينسنت هذا النموذج من خلال شراكات استراتيجية مع جهات إقليمية. فعلى سبيل المثال، تعاونت مع شركة "e&" الإماراتية (اتصالات سابقاً) لبناء منصة "سوبر مول" الرقمية ضمن تطبيق "سمايلز". وتُتيح هذه المنصة لمُزودي الخدمات من مختلف القطاعات الانضمام وتقديم خدماتهم ضمن منظومة رقمية موحدة، مما يُسهل على المستخدمين الوصول إلى الخدمات، ويُعزز من قدرة المؤسسات على التوسع وتحقيق الكفاءة التشغيلية.

بصمة الكف: تقنية حديثة تُعزز أمن المدن الذكية

في ظل التطور السريع للبنية التحتية للمدن الذكية في الخليج، تُبرز تقنية التحقق البيومتري من راحة اليد كحل متقدم للتحديات التقليدية في مصادقة الهوية. فهذه التقنية، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، تُوفر مستوى عالٍ من الأمان، وتُغني عن الحاجة إلى الكلمات السرية أو البطاقات الذكية.

تطبيقات متعددة: من الوصول الآمن إلى تجارب تسوق مخصصة

تُستخدم هذه التقنية في العديد من التطبيقات، مثل التحكم في الوصول إلى المباني والمرافق الحساسة، وتسهيل تسجيل المرضى في الرعاية الصحية، وتقديم تجارب تسوق مخصصة في قطاع التجزئة، وتفعيل وسائل النقل العام دون تلامس. ويُؤكد السيد دان هو على سرعة وفعالية هذه التقنية، قائلاً إنها تُعالج قيوداً معروفة في تقنيات المصادقة التقليدية، مما يجعلها أكثر ملاءمة لبيئات متعددة المستخدمين.

"خليفة": السفير الرقمي يُعزز تجربة السياحة في أبو ظبي

تُعتبر تقنية البشر الرقميين، أو الشخصيات الافتراضية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، من أحدث التقنيات التي تُستخدم في تعزيز التفاعل الرقمي. ومن أبرز التطبيقات الإقليمية لهذه التقنية، شخصية "خليفة"، السفير الرقمي للسياحة والثقافة في أبو ظبي، الذي طُوّر باستخدام تقنيات تينسنت السحابية.

سهولة الإنتاج وسرعة التنفيذ: فرص واسعة في مختلف القطاعات

تتميز هذه التقنية بسهولة إنتاجها وسرعة تنفيذها، حيث يمكن إنشاء شخصية رقمية واقعية في وقت قصير جداً، مما يجعلها مناسبة للاستخدام في مجالات مثل خدمة العملاء، والترجمة الفورية، والتفاعل مع العلامات التجارية.

شراكات استراتيجية: بناء أنظمة بيئية رقمية متكاملة

تدرك تينسنت أن النجاح في المنطقة لا يعتمد فقط على تصدير الحلول، بل على بناء أنظمة بيئية رقمية متكاملة تتفاعل مع البنية الاقتصادية والاجتماعية لكل بلد. ولهذا، وسعت الشركة شراكاتها الإقليمية، منها التعاون مع شركة "زين تيك" لتقديم تقنيات متقدمة في مجالات التحقق من الهوية والتوأم الرقمي، ومع شركة "بلاي أوت" لإطلاق منصة لإنشاء ألعاب مصغرة.

الخليج: ليس مجرد مستهلك، بل شريك في صياغة مستقبل التكنولوجيا

في الختام، يُظهر التوسع الأخير لتينسنت في منطقة الخليج مرحلة جديدة من العلاقة بين الشركات العالمية والأسواق الخليجية، علاقة تتجاوز بيع الخدمات إلى شراكة في بناء الأنظمة الرقمية. فمن خلال تبني التقنيات الحديثة، والتعاون مع الشركات المحلية، تُسهم تينسنت في تشكيل مستقبل المنطقة الرقمي، ليصبح الخليج ليس مجرد مستهلك للتكنولوجيا، بل شريكاً فاعلاً في صياغة مستقبلها. ورغم التحديات التي لا تزال قائمة، مثل تنظيم البيانات، وتوطين اللغات، وتعزيز الثقة بالحلول الرقمية، إلا أن السرعة في التبني، والانفتاح على الشراكات، والإرادة السياسية الواضحة تجعل من الخليج بيئة واعدة للتجارب التكنولوجية العالمية ذات الطابع المحلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى