قلق أوروبي من هيمنة التكنولوجيا الأمريكية

قلق أوروبي متزايد من الاعتماد المفرط على شركات التكنولوجيا الأمريكية

تحول استراتيجي: أوروبا تبحث عن بدائل لتقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأمريكية

يشهد العالم تحولاً استراتيجياً في مجال التكنولوجيا، حيث تعيد الحكومات والشركات والمواطنون الأوروبيون النظر في اعتمادهم المفرط على شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة مثل مايكروسوفت، جوجل، وأمازون. لم يعد هذا الاعتماد مجرد مسألة اقتصادية بحتة، بل امتد ليصبح قضية ذات أبعاد سياسية وأمنية، مما دفع أوروبا للبحث عن بدائل وطنية وأوروبية. تُبرز هذه المقالة أسباب هذا القلق، وخطوات أوروبا نحو تحقيق سيادة رقمية أكبر، والتحديات التي تواجهها في هذا المسار.

شرارة التحول: حادثة كريم خان ومايكروسوفت

كانت شرارة هذا التحول الاستراتيجي هي حادثة إغلاق مايكروسوفت لحساب البريد الإلكتروني لكريم خان، المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، بعد فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عقوبات عليه. أثار هذا الحدث جدلاً واسعاً وأظهر بوضوح مدى السيطرة التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا الأمريكية وقدرتها على التأثير على الأحداث العالمية بقرارات تبدو بسيطة ظاهرياً. فقد أصبح هذا الحدث "الدليل القاطع" – حسب تصريح دبلوماسي دنماركي سابق – على الخطر الكامن في الاعتماد الكلي على هذه الشركات. أدى ذلك إلى تدفق الموظفين في المحكمة الجنائية الدولية إلى استخدام خدمات بريد إلكتروني أوروبية بديلة، مثل بروتون السويسرية، مما يُظهر بداية تحول ملموس.

أبعاد القلق: أكثر من مجرد بريد إلكتروني

يُعدّ قلق أوروبا من الاعتماد على شركات التكنولوجيا الأمريكية أعمق من حادثة كريم خان. فقد أصبحت هذه الشركات تسيطر على قطاعات حساسة كالحوسبة السحابية، والتي تُشكل العمود الفقري للبنية التحتية الرقمية للدول. تُقدر حصة الشركات الأمريكية في سوق الحوسبة السحابية في أوروبا بأكثر من 70%، وهذا يُمثّل خطراً كبيراً في حال تدخّل الحكومة الأمريكية أو أي ضغوط سياسية. يُضاف إلى ذلك مخاوف أخرى تتعلق بانتهاكات الخصوصية، وممارسات المنافسة غير العادلة، ونشر المعلومات المضللة. تُشير تسريبات إدوارد سنودن في عام 2013 إلى عمليات مراقبة واسعة النطاق من قبل الولايات المتحدة، مما زاد من قلق أوروبا على أمنها الرقمي.

السيادة الرقمية: هدف استراتيجي لأوروبا

في سياق هذا القلق، أصبحت "السيادة الرقمية" هدفاً استراتيجياً للعديد من الدول الأوروبية. فهي تسعى إلى بناء بنية تحتية رقمية مستقلة أقل اعتماداً على الشركات الأمريكية، وذلك من خلال تطوير بدائل محلية وتشجيع نمو شركات التكنولوجيا الأوروبية. تتضمن هذه الجهود استثمارات ضخمة في بناء مراكز بيانات جديدة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، مع التركيز على توفير الحماية لبيانات المواطنين والمؤسسات.

الخطوات العملية: من التخطيط إلى التنفيذ

تتخذ الدول الأوروبية خطوات عملية للتخفيف من اعتمادها على الشركات الأمريكية. ففي هولندا، أعلنت الحكومة عن اهتمامها الكامل بموضوع الاستقلالية والسيادة الرقمية وتعاونها مع مزودي خدمات أوروبيين. وفي الدنمارك، تُجري وزارة الرقمنة اختبارات لبدائل مايكروسوفت أوفيس. كما تتخذ ألمانيا خطوات مماثلة في بعض ولاياتها. على مستوى الاتحاد الأوروبي، هناك خطط لإنفاق مليارات اليورو على بناء بنية تحتية رقمية أوروبية مستقلة. كما يُناقش المشرّعون في برلمان الاتحاد الأوروبي تغييرات في السياسات من شأنها تشجيع الحكومات على شراء الخدمات التقنية من شركات أوروبية.

فرصة لشركات التكنولوجيا الأوروبية

يُمثّل هذا التحول فرصة ضخمة لشركات التكنولوجيا الأوروبية لتوسيع نشاطها وجذب عملاء جدد. فقد شهدت بعض شركات الحوسبة السحابية الأوروبية زيادة في الأعمال الجديدة، مما يُشير إلى إمكانية تغيير موازين القوى في هذا القطاع.

التحديات المستقبلية: الطريق إلى السيادة الرقمية

على الرغم من هذه الجهود، لا يزال الطريق إلى السيادة الرقمية الأوروبية طويلاً ومليئاً بالتحديات. فمن أبرز هذه التحديات حجم الاستثمار الضخم المطلوب، وتطوير الخبرات والمهارات اللازمة، وتحقيق التكامل بين الدول الأوروبية في هذا المجال. كما يُمثّل التنافس الشديد مع الشركات الأمريكية العملاقة تحدياً كبيراً. لكن الجهود المبذولة تُظهر إرادة أوروبية قوية للتحكم في مصيرها الرقمي، والتخفيف من الاعتماد على قوى خارجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى