محيطاتٌ مريضة.. بشرٌ مهددون

كارثة صامتة: تحمّض المحيطات وتهديد مستقبل البشرية

تُظهر دراسة جديدة نشرت في مجلة Global Change Biology في التاسع من يونيو عام 2025، صورة قاتمة عن صحة محيطاتنا. فقد تجاوزت مستويات حموضة مياه البحار عتبة الأمان منذ خمس سنوات، مُدققة ناقوس الخطر حول دخولنا رسميًا في "منطقة الخطر" البيئية. هذا التحذير ليس مجرد رقم على ورقة، بل هو إنذار بحدوث كارثة بيئية واقتصادية واجتماعية قد تُغيّر وجه كوكبنا للأبد.

حموضة المحيطات: ثاني أكسيد الكربون كمصدر رئيسي للخطر

تُشير الدراسة بوضوح إلى أن السبب الرئيسي وراء هذه الزيادة المُقلقة في حموضة المحيطات هو ارتفاع مُتسارع في نسب ثاني أكسيد الكربون الناتج عن الأنشطة البشرية، خاصةً احتراق الوقود الأحفوري. يمتص المحيط كميات هائلة من هذا الغاز، ما يُؤدي إلى تفاعل كيميائي يُحوّله إلى حمض الكربونيك، وبالتالي انخفاض قيمة الأس الهيدروجيني (pH) للمياه. هذه العملية البطيئة ولكنها مُدمرة، تُهدد التوازن الدقيق للنظام البيئي البحري بأكمله.

آليات التدمير الكيميائي: تأثير على الكائنات البحرية

لا يقتصر تأثير تحمّض المحيطات على انخفاض قيمة الأس الهيدروجيني فحسب، بل يتعداه إلى التأثير المباشر على تركيز الأيونات الكربونية، وخاصةً الأراجونايت، وهو شكل من أشكال كربونات الكالسيوم ضروري لبناء الهياكل العظمية والصدف لدى العديد من الكائنات البحرية، مثل الشعاب المرجانية والمحار وبلح البحر. انخفاض تركيز الأراجونايت إلى ما دون المستويات الحرجة، كما تُشير الدراسة، يُهدد قدرة هذه الكائنات على البقاء والتكاثر، ما يُنذر بفقدان هائل للتنوع البيولوجي البحري. وقد تجاوزت النسبة الحالية لانخفاض الأراجونايت 19% مقارنةً بمستويات ما قبل الثورة الصناعية، وهو مؤشر خطير على تجاوز حدود السلامة الكوكبية.

التأثير المتسلسل: من الشعاب المرجانية إلى الأمن الغذائي العالمي

لا يقتصر خطر تحمّض المحيطات على الكائنات البحرية نفسها، بل يتعدى ذلك إلى التأثير على سلاسل الغذاء البحرية بأكملها. فالشعاب المرجانية، التي تُعرف بكونها "غابات الأمازون" البحرية، تُعتبر موطنًا لعدد هائل من الأنواع البحرية، وتُشكّل أساسًا لشبكات غذائية معقدة. تدهور الشعاب المرجانية بسبب تحمّض المحيطات، يُؤدي إلى اختلال هذه الشبكات، ما يُعرّض العديد من الأنواع للخطر، بما في ذلك الأسماك التي تُعتبر مصدرًا رئيسيًا للغذاء لملايين البشر.

تهديد الأمن الغذائي والاقتصادات الساحلية

يُمثّل هذا التدهور تهديدًا مباشرًا للأمن الغذائي العالمي، خاصةً في الدول الساحلية النامية التي تعتمد بشكل كبير على موارد البحر كمصدر رئيسي للغذاء والدخل. فانخفاض أعداد الأسماك، واختلال التوازن البيئي البحري، سيؤدي إلى ارتفاع أسعار المأكولات البحرية، وزيادة معاناة المجتمعات الساحلية، وربما إلى نزاعات على الموارد المتناقصة. كما أن تدمير الشعاب المرجانية، التي تُعتبر أيضًا مناطق جذب سياحي مهمة، سيؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة في العديد من الدول.

دعوة للتحرك العاجل: مسؤولية جماعية لمنع الكارثة

تُشدد الدراسة على أهمية اتخاذ خطوات عاجلة لتقليل انبعاثات الكربون، والحد من تأثيرات الأنشطة الصناعية على البيئة البحرية. إن تجاهل هذه الأزمة، كما يحذر الباحثون، سيؤدي إلى نتائج كارثية لا يمكن التنبؤ بها. يجب على الحكومات والشركات والمجتمع المدني العمل معًا لتطوير حلول مستدامة، والانتقال إلى مصادر طاقة نظيفة، وتطبيق سياسات بيئية صارمة لحماية محيطاتنا.

التعاون الدولي: ضرورة ملحة لمواجهة التحدي

تتطلب مواجهة هذه الكارثة البيئية تعاونًا دوليًا واسع النطاق. يجب على الدول الغنية أن تُقدم الدعم المالي والتقني للدول النامية لمساعدتها على التخفيف من انبعاثات الكربون، وتكييف نفسها مع تأثيرات تغير المناخ. كما يجب تعزيز البحث العلمي لفهم الآليات الكيميائية والبيئية المُتعلقة بتحمّض المحيطات بشكل أفضل، وتطوير تقنيات جديدة للحد من هذه الظاهرة.

دور الأفراد: مسؤولية مشتركة في الحفاظ على البيئة

لا يقتصر دور مواجهة هذه الأزمة على الحكومات والمنظمات الدولية فقط، بل يمتد أيضًا إلى الأفراد. فكل شخص لديه دور يُلعبه في الحد من انبعاثات الكربون، من خلال تبني أنماط حياة مستدامة، مثل استخدام وسائل النقل العام، وتقليل استهلاك الطاقة، واختيار المنتجات الصديقة للبيئة. كما يمكن للأفراد المساهمة في رفع الوعي العام بأهمية حماية المحيطات، من خلال نشر المعلومات، والمشاركة في حملات التوعية البيئية.

إن تحمّض المحيطات ليس مجرد تهديد بيئي، بل هو تهديد وجودي للبشرية. يجب علينا جميعًا أن نعمل معًا، الآن، قبل فوات الأوان، لمنع هذه الكارثة من الحدوث. إن حماية محيطاتنا هي حماية لمستقبلنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى