يتيح برنامج Bonfire الجديد للمستخدمين بناء مجتمعاتهم الاجتماعية الخاصة ، خالية من التحكم في النظام الأساسي

بونفاير سوشيال: ثورة في بناء المجتمعات الرقمية بعيداً عن سيطرة العمالقة
في عالمنا الرقمي المعاصر، أصبحت الشبكات الاجتماعية جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية. من فيسبوك إلى تويتر (إكس حالياً)، ومن إنستغرام إلى تيك توك، باتت هذه المنصات هي الساحات الرئيسية للتواصل وتبادل الأفكار وبناء المجتمعات. لكن، خلف بريق هذه المنصات وسهولة استخدامها، تكمن تحديات جمة تتعلق بالخصوصية، والتحكم في المحتوى، وسيطرة الشركات الكبرى على بياناتنا وتفاعلاتنا. في خضم هذا المشهد، يبرز مشروع "بونفاير سوشيال" (Bonfire Social) كبديل واعد، مقدماً نموذجاً جديداً يهدف إلى إعادة السلطة إلى المستخدمين والمجتمعات نفسها، وتحريرهم من قيود المنصات المركزية.
تم إطلاق "بونفاير سوشيال" مؤخراً، وتحديداً يوم الخميس الماضي، خلال مؤتمر "فيدي فوروم" (FediForum) عبر الإنترنت، ليمثل نقلة نوعية في مفهوم بناء المجتمعات على الويب الاجتماعي المفتوح. لا يقتصر "بونفاير" على كونه مجرد تطبيق اجتماعي آخر، بل هو إطار عمل كامل مصمم لتمكين المستخدمين من إنشاء مجتمعاتهم الخاصة، مع تحكم غير مسبوق في كيفية عمل هذه المجتمعات وميزاتها.
التحول من المركزية إلى الفيدرالية: لماذا "بونفاير" مختلف؟
لفهم جوهر "بونفاير سوشيال"، يجب أن نستوعب أولاً الفارق بينه وبين الشبكات الاجتماعية التقليدية. تعتمد معظم المنصات التي نستخدمها اليوم على نموذج مركزي، حيث تتحكم شركة واحدة (مثل ميتا أو جوجل) في الخوادم والبيانات والقواعد والخوارزميات. هذا يمنحها سلطة مطلقة على المحتوى، والوصول، وحتى مصير المجتمعات التي تتشكل داخلها. يمكن لهذه الشركات تغيير السياسات، أو تعديل الخوارزميات، أو حتى حظر المستخدمين والمحتوى دون مساءلة حقيقية، مما يؤثر سلباً على حرية التعبير وخصوصية البيانات.
في المقابل، يتبنى "بونفاير سوشيال" نموذجاً "فيدرالياً" (Federated)، وهو مفهوم مشابه لما يسمى بـ "الفيديفيرس" (Fediverse). هذا يعني أنه مبني على نفس البروتوكول الأساسي الذي يدعم تطبيقات مثل "ماستودون" (Mastodon)، وهو بروتوكول "أكتيفيتي بَب" (ActivityPub). ببساطة، بدلاً من وجود خادم مركزي واحد، يتكون الفيديفيرس من شبكة من الخوادم المستقلة (أو "النسخ" Instances) التي يمكنها التواصل والتفاعل مع بعضها البعض. تخيل الأمر كخدمة البريد الإلكتروني؛ يمكنك إرسال بريد إلكتروني من حساب Gmail إلى حساب Outlook، لأن كلاهما يستخدم بروتوكولات مفتوحة ومعيارية. "أكتيفيتي بَب" يفعل الشيء نفسه للمحتوى الاجتماعي.
هذه الطبيعة الفيدرالية تمنح "بونفاير" مرونة وقابلية تخصيص هائلتين. فالمجتمعات التي تعمل على "بونفاير" تتمتع بقدر أكبر من التحكم في كيفية عمل التطبيق، والميزات الافتراضية المتاحة، وحتى خارطة طريق تطويره وأولوياته. هذا التحول الجذري يعيد البرمجيات الاجتماعية إلى سيطرة المستخدمين، بدلاً من أن تكون خاضعة لأهواء صانعي المنصات الذين يغيرون مجموعات الميزات والخوارزميات باستمرار لخدمة مصالحهم التجارية.
فلسفة "بونفاير": مجتمعات تزدهر بعيداً عن المصالح الرأسمالية
يتجاوز "بونفاير سوشيال" مجرد التكنولوجيا ليقدم فلسفة اجتماعية عميقة. يصف البرنامج نفسه بأنه مكان "تزدهر فيه جميع الكائنات الحية والمجتمعات، متحررة من المصالح الخاصة والسيطرة الرأسمالية". هذه العبارة الجريئة تلخص مهمته الأساسية: بناء برمجيات اجتماعية حيث يتخذ الناس القرارات، وليس عمالقة التكنولوجيا مثل ميتا أو جوجل.
هذه الرؤية تتجسد في نموذج عمل المنظمة نفسها. فـ "بونفاير" منظمة غير ربحية، تعتمد في تمويلها على التبرعات والمنح، ولا تقبل رأس المال الاستثماري. هذا يضمن أن تكون أولوياتها موجهة نحو خدمة المستخدمين والمجتمعات، وليس تحقيق أقصى قدر من الأرباح للمستثمرين. علاوة على ذلك، فإن الكود البرمجي لـ "بونفاير" مفتوح المصدر بالكامل، مما يعني أن أي شخص يمكنه فحص الكود، وتعديله، والمساهمة في تطويره. هذا يعزز الشفافية، ويسمح بالتعاون مع المجتمعات والباحثين لبناء وتحسين المساحات الرقمية عبر الإنترنت، مما يضمن أن يكون التطوير مدفوعاً بالاحتياجات الفعلية للمستخدمين، وليس بأجندات خفية.
"النكهات" والتخصيص: قوة التحكم في أيدي المجتمعات
يقدم "بونفاير سوشيال" حالياً كـ "مرشح إصدار 1.0" (1.0 Release Candidate) قبل إصداره العام، وهو مجرد تمثيل واحد لما يقدمه "بونفاير" كإطار عمل. يطلق "بونفاير" على هذه التمثيلات اسم "النكهات" (flavors). كل "نكهة" هي حزمة معدة مسبقاً من الإضافات والميزات والإعدادات الافتراضية لـ "بونفاير"، تشبه إلى حد كبير القالب الأولي.
عندما تختار إحدى المجتمعات تشغيل "نكهة" معينة، فإنها تحصل على صلاحية إدارة التطبيق بالكامل كما تراه مناسباً. يمكنها إضافة إضافاتها الخاصة، وتحديد خارطة طريقها لتغييرات المنتج، وحتى تصميم تجربة المستخدم بما يتناسب مع طبيعتها وأهدافها. على سبيل المثال، قد تختار جامعة تشغيل "نكهة" مخصصة للبحث العلمي، تتضمن ميزات للمشاركة الأكاديمية والتعاون في الأبحاث، بينما قد تختار مجموعة دعم مجتمعي "نكهة" تركز على أدوات المساعدة المتبادلة والتنسيق المحلي. هذا المستوى من التحكم غير موجود في المنصات الاجتماعية التقليدية، حيث يضطر المستخدمون إلى التكيف مع التغييرات التي تفرضها الشركات الكبرى.
ميزات فريدة تتجاوز المألوف
بالإضافة إلى الأساس الفيدرالي والتحكم المجتمعي، يقدم "بونفاير سوشيال" مجموعة من الميزات التي تعزز تجربة المستخدم وتختلف عن الشبكات الاجتماعية التقليدية:
الخلاصات المخصصة (Custom Feeds):
بينما يوفر "بونفاير سوشيال" ميزات مألوفة مثل خلاصات المحتوى، وأدوات متابعة المستخدمين، ومشاركة المنشورات، وإنشاء الملفات الشخصية، والإبلاغ عن المحتوى أو حظره، فإنه يتفوق في ميزة الخلاصات المخصصة. لقد شاعت فكرة متابعة الخلاصات المخصصة في شبكات اجتماعية أحدث مثل "بلو سكاي" (Bluesky) أو متصفحات اجتماعية مثل "فليب بورد سيرف" (Flipboard’s Surf). ومع ذلك، فإن الأدوات اللازمة لإنشاء هذه الخلاصات غالباً ما يتم صيانتها بواسطة جهات خارجية، مما يضيف طبقة من التعقيد أو الاعتمادية.
يقدم "بونفاير" بدلاً من ذلك أدواته الخاصة لبناء الخلاصات المخصصة في واجهة بسيطة لا تتطلب من المستخدمين فهم البرمجة. يمكن للمستخدمين تصفية المحتوى وفرزه حسب النوع، والتاريخ، ومستوى التفاعل، ومصدر النسخة (Instance)، والمزيد، بما في ذلك مفهوم فريد يسميه "الدوائر" (Circles). هذه الميزة تمنح المستخدمين سيطرة كاملة على المحتوى الذي يرونه، مما يقلل من تأثير الخوارزميات التي قد تدفع المحتوى المثير للجدل أو المضلل.الدوائر (Circles):
قد يكون مفهوم "الدوائر" مألوفاً لأولئك الذين عاصروا عصر شبكة "جوجل بلس" (Google+). في تلك الشبكة، كان المستخدمون ينظمون جهات الاتصال في مجموعات، تسمى "الدوائر"، لمشاركة محسّنة. يعيش هذا المفهوم في "بونفاير"، حيث تمثل الدائرة قائمة من الأشخاص. يمكن أن تكون هذه المجموعة من الأصدقاء، أو مجموعة معجبين، أو مستخدمين محليين، أو منظمين في مجموعة مساعدة متبادلة، أو أي شيء آخر يمكن للمستخدمين ابتكاره. هذه الدوائر تكون خاصة بشكل افتراضي ولكن يمكن مشاركتها مع الآخرين، مما يتيح للمستخدمين التحكم بدقة في من يرى منشوراتهم ومن يتفاعل معها. على سبيل المثال، يمكن لمستخدم أن ينشر تحديثاً خاصاً بأسرته في دائرة "العائلة" فقط، بينما ينشر تحديثاً عاماً في دائرة "الأصدقاء".الحدود (Boundaries):
ميزة فريدة أخرى في "بونفاير سوشيال" هي "الحدود" (Boundaries)، والتي تتيح لك التحكم في من يمكنه رؤية المحتوى الخاص بك أو التفاعل معه. على سبيل المثال، يمكنك مشاركة منشور مع عدد من دوائرك، ولكن تسمح لأعضاء دائرة معينة فقط بالتعليق. هذه الميزة بالغة الأهمية للمجتمعات التي تتطلب مستويات مختلفة من الخصوصية أو التفاعل، مثل مجموعات العمل السرية، أو النقاشات الحساسة، أو حتى تنظيم الفعاليات الخاصة. إنها توفر طبقة إضافية من الأمان والتحكم في المحادثات الرقمية.المناقشات المتداخلة (Nested Discussions):
يدعم "بونفاير" أيضاً المحادثات المتداخلة (أو المتسلسلة)، حيث يمكن للردود أن تتفرع إلى سلاسل فرعية خاصة بها. هذه الميزة مفيدة للمجتمعات التي تكون فيها المناقشات العميقة والتعاون أكثر قيمة من تلك التي يتنافس فيها الجميع على لفت الانتباه. إنها تحاكي طبيعة المحادثات الحقيقية، حيث يمكن أن تتفرع الأفكار وتتطور بشكل عضوي، مما يسهل تتبع النقاشات المعقدة ويشجع على التفكير النقدي والتعاون.ملفات تعريف متعددة لكل مستخدم (Multiple Profiles per User):
يسمح "بونفاير" للمستخدمين بإنشاء ملفات تعريف متعددة. هذه الميزة مفيدة جداً للأشخاص الذين لديهم جوانب مختلفة من حياتهم يرغبون في فصلها، مثل ملف شخصي للعمل، وآخر للهوايات، وثالث للمجموعة العائلية. هذا يقلل من الحاجة إلى إنشاء حسابات متعددة على منصات مختلفة، ويمنح المستخدم مرونة أكبر في إدارة هوياته الرقمية.منشورات النص الغني (Rich-text Posts):
دعم منشورات النص الغني يعني أن المستخدمين يمكنهم تنسيق محتواهم بشكل أفضل، باستخدام الخطوط العريضة، والمائلة، والقوائم، والروابط، وغيرها من خيارات التنسيق التي تفتقر إليها العديد من منصات التواصل الاجتماعي البسيطة. هذه الميزة تعزز جودة المحتوى وتجعله أكثر جاذبية وسهولة في القراءة، خاصة للمحتوى الذي يتطلب تفصيلاً أو تنظيماً، مثل المقالات القصيرة أو الشروحات.
الآفاق المستقبلية والتحديات
لا يزال "بونفاير سوشيال" في مراحله الأولى، ولكن رؤيته واعدة. إن تطوير "نكهات" أخرى مثل "بونفاير كوميونيتي" (Bonfire Community) و"العلوم المفتوحة" (Open Science) يدل على طموح المنظمة لتغطية مجموعة واسعة من احتياجات المجتمعات. كما أن إتاحة البرنامج لأي مجتمع لإنشاء نسخته الخاصة يعزز من طبيعته المفتوحة واللامركزية.
ومع ذلك، يواجه "بونفاير" وجميع مشاريع الويب الفيدرالي تحديات كبيرة. أبرزها هو تبني المستخدمين. فمع اعتياد الملايين على سهولة الاستخدام والشبكة الواسعة للمنصات المركزية، قد يكون الانتقال إلى نموذج جديد يتطلب قدراً أكبر من الفهم والتحكم أمراً صعباً. كما أن تأثير الشبكة (Network Effect) يلعب دوراً حاسماً؛ فكلما زاد عدد المستخدمين على منصة، زادت قيمتها. بناء هذا التأثير من الصفر يتطلب وقتاً وجهداً كبيرين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إدارة المحتوى في بيئة فيدرالية يمكن أن تكون معقدة. فبينما يمنح "بونفاير" المجتمعات تحكماً أكبر، فإن هذا يضع مسؤولية أكبر على عاتق هذه المجتمعات في وضع وتنفيذ سياسات الإشراف الخاصة بها. قد يؤدي ذلك إلى تباينات في معايير المحتوى عبر النسخ المختلفة، مما قد يثير تساؤلات حول التناسق والفعالية في مكافحة خطاب الكراهية أو المعلومات المضللة.
على الرغم من هذه التحديات، يمثل "بونفاير سوشيال" خطوة مهمة نحو مستقبل رقمي أكثر ديمقراطية وتركيزاً على الإنسان. في منطقة مثل العالم العربي، حيث غالباً ما تكون قضايا الخصوصية وحرية التعبير على الإنترنت محط جدل، يمكن أن توفر منصات مثل "بونفاير" مساحة حيوية للمجتمعات للتواصل بحرية أكبر، بعيداً عن الرقابة الحكومية أو سياسات الشركات التي قد لا تتماشى دائماً مع القيم المحلية أو احتياجات المستخدمين. إن القدرة على بناء مجتمعات مخصصة، مع التحكم الكامل في القواعد والميزات، يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة للتعاون، والابتكار، والتعبير عن الذات بطرق لم تكن ممكنة من قبل.
خاتمة
"بونفاير سوشيال" ليس مجرد برنامج، بل هو بيان حول مستقبل الويب الاجتماعي. إنه يدعو إلى نموذج حيث لا تكون المنصات مجرد أدوات استهلاكية، بل مساحات مملوكة ومدارة من قبل المجتمعات نفسها. في عالم يزداد فيه الوعي بأهمية الخصوصية والتحكم في البيانات، يمكن أن يكون "بونفاير" شرارة لثورة حقيقية تعيد تشكيل كيفية تفاعلنا وبناء مجتمعاتنا على الإنترنت، مؤكداً على أن القوة الحقيقية تكمن في أيدي المستخدمين، لا في أيدي عمالقة التكنولوجيا. إنها دعوة للمجتمعات لامتلاك مساحاتها الرقمية، وتحديد مصيرها، والازدهار بعيداً عن أي سيطرة خارجية.