يربى Space Forge سلسلة A 30 مليون دولار لصنع مواد رقاقة في الفضاء

صناعة مواد الرقائق الإلكترونية في الفضاء: شركة "سبيس فورج" تحصل على تمويل ضخم
مقدمة:
يشهد العالم طفرة هائلة في الطلب على أشباه الموصلات (semiconductors) مدفوعةً بالتقدم السريع في مجالات الذكاء الاصطناعي والمركبات الكهربائية وغيرها. لكنّ اعتمادنا الرئيسي على السيليكون كمادة خام في صناعة الرقائق الإلكترونية يواجه تحديات كبيرة. فقد اقتربت تقنية السيليكون من حدودها القصوى من حيث الكفاءة والأداء. لذا، يبحث الباحثون عن مواد جديدة أكثر كفاءة، وقد يكون الحلّ موجوداً في مكان غير متوقع: الفضاء. تُعدّ شركة "سبيس فورج" (Space Forge)، وهي شركة ناشئة بريطانية مقرها كارديف في ويلز، من أبرز الشركات التي تعمل على هذا المسار الواعد، بعد حصولها مؤخراً على تمويل ضخم بقيمة 30 مليون دولار أمريكي في جولة تمويل السلسلة A. سنستعرض في هذا المقال تفاصيل هذا الاستثمار، وكيفية استخدام "سبيس فورج" للفضاء في إنتاج مواد رقائق متطورة، والتحديات والفرص التي تواجهها هذه الشركة الرائدة في مجال التصنيع الفضائي.
الطلب المتزايد على أشباه الموصلات وتحديات السيليكون:
يُعتبر قطاع أشباه الموصلات ركيزةً أساسيةً للاقتصاد العالمي الحديث. فمن الهواتف الذكية إلى السيارات ذاتية القيادة، لا يمكن تصور أيّ من التقنيات المتقدمة دون وجود هذه الرقائق الصغيرة القوية. يشهد الطلب على أشباه الموصلات نمواً متسارعاً، خاصةً مع ازدياد اعتمادنا على التطبيقات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل السيارات ذاتية القيادة، والروبوتات، وأجهزة إنترنت الأشياء (IoT). كما يُساهم الانتشار السريع لتقنيات الجيل الخامس (5G) في زيادة الطلب بشكل ملحوظ.
لكنّ هذه الزيادة في الطلب تضع ضغطاً هائلاً على صناعة أشباه الموصلات التي تعتمد بشكل كبير على السيليكون. فالسليكون، على الرغم من وفرته، يُعاني من قيود فيزيائية تعيق تحسين كفاءته وأدائه. فمع تضاؤل أحجام الترانزستورات في الرقائق، تزداد صعوبة التحكم في خصائصها الكهربائية، مما يؤدي إلى انخفاض الكفاءة وزيادة استهلاك الطاقة.
الفضاء: بيئة مثالية لصناعة مواد رقائق متطورة:
تُقدم بيئة الفضاء فرصاً فريدةً لصناعة مواد أشباه الوصلات ذات جودة عالية. ففي غياب الجاذبية، يمكن نموّ البلورات بشكل أكثر كفاءة، مما يُقلل من عيوبها الداخلية (defects). هذه العيوب تُعيق أداء الرقائق وتؤثر على كفاءتها الطاقة. كما تُساعد ظروف الفضاء الفريدة، مثل الضغط والإشعاع، على إنتاج مواد جديدة لا يمكن تصنيعها على الأرض.
أثبتت الأبحاث التي امتدت لعقود من الزمن إمكانية تصنيع مواد أشباه الوصلات في الفضاء مع تحسينات جذرية في جودتها وأدائها. وقد أظهرت دراسات سابقة أنّ البلورات المُصنّعة في الفضاء تتميز بخصائص فيزيائية مُحسّنة، مثل انخفاض مقاومتها الكهربائية وزيادة شفافيتها البصرية، مما يجعلها مثاليةً لاستخدامها في تطبيقات متقدمة مثل الحوسبة الكوانتية (quantum computing) والأنظمة الدفاعية.
استراتيجية "سبيس فورج" وشبكة شركائها:
تعتمد "سبيس فورج" على استراتيجية ذكية تُركز على التعاون مع شركات رائدة في مجالات الصناعة والفضاء. فبدلاً من إنشاء بنية تحتية صناعية كاملة بمفردها، تُركز الشركة على دمج تقنيات موجودة ومُثبتة في سلسلة الإنتاج، من تصنيع الرقائق إلى إعادتها إلى الأرض. وهذا ما يُسمّى بـ "حلّ المشاكل المعروفة" (solved problems).
وقد ساعد هذا النهج "سبيس فورج" على جذب استثمارات كبيرة من صندوق الابتكار في الناتو (NATO Innovation Fund)، بالإضافة إلى شراكات مع شركات كبرى مثل "نورثروب غرومان" (Northrop Grumman)، وهي واحدة من أبرز الشركات المُتخصصة في التصنيع العسكري في الولايات المتحدة. يُعزى هذا الاهتمام إلى الاستخدامات المزدوجة (dual-use) لتقنية "سبيس فورج"، حيث يمكن استخدامها في التطبيقات المدنية والعسكرية على حدّ سواء.
التحديات التقنية والهندسية:
على الرغم من إمكانية تصنيع مواد الرقائق في الفضاء، إلا أنّ هذا الأمر يُمثّل تحدياً هندسياً كبيراً. فتُواجه "سبيس فورج" صعوبات كبيرة في التعامل مع ظروف الفضاء القاسية، مثل درجات الحرارة المتطرفة وانعدام الجاذبية. ويُلخص هذا التحدي بقول الرئيس التنفيذي لـ"سبيس فورج"، جوشوا ويسترن: "كم هو صعب فعل هذا!".
ولكن الشركة تُحرز تقدماً ملحوظاً في تطوير تقنيات متقدمة لتجاوز هذه التحديات. فقد صمّمت "سبيس فورج" نظاماً متطوراً لإعادة المواد إلى الأرض، يُشبه "ماري بوبنس من الفضاء" (Mary Poppins from space)، كما وصفه ويسترن. فهو يتكوّن من درع حماية حرارية (heat shield) يُسمّى "بريدوين" (Pridwen)، وهو إشارة إلى أسطورة الملك أرثر، بالإضافة إلى شبكة عائمة (floating net) يُسمّى "فيلدر" (Fielder) لضمان هبوط آمن للقمر الصناعي في المحيط.
التعاون الدولي وبناء البنية التحتية:
تُولي "سبيس فورج" أهمية كبيرة للتعاون الدولي في تطوير بنية تحتية متكاملة لإنتاج مواد الرقائق في الفضاء. وقد حظيت الشركة بدعم من وكالة الفضاء البريطانية (U.K. Space Agency) ووكالة الفضاء الأوروبية (European Space Agency)، حتى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وقد افتتحت "سبيس فورج" مؤخراً مكتباً جديداً في البرتغال، في جزيرة سانتا ماريا في جزر الأزور، وهو موقع استراتيجي لإعادة الأقمار الصناعية إلى أوروبا القارية. وتُعتبر هذه الخطوة جزءاً من استراتيجية الشركة لتوسيع عملياتها على المستوى الصناعي في أوروبا، وإقناع الشركاء الأوروبيين بجدوى هذا النهج.
مستقبل صناعة أشباه الموصلات في الفضاء:
يُعتبر تزايد انتشار تقنيات إطلاق الأقمار الصناعية وإعادتها عاملًا مُحركًا لنموّ شركات التصنيع الفضائي الناشئة. فقد أصبح إطلاق الأقمار الصناعية وإعادتها أكثر تكلفة فعالية من الماضي، مما يُسهّل من إمكانية الاستثمار في هذا المجال. وتُشير التوقعات إلى توسّع تطبيقات التصنيع الفضائي لتشمل مجالات أخرى مثل اكتشاف الأدوية وتصنيع معدّات الاتصالات السلكية واللاسلكية.
لكنّ نجاح هذه الشركات يعتمد بشكل كبير على خفض التكاليف أو إيجاد عملاء مستعدّين لدفع تكلفة إضافية مقابل المواد المُصنّعة في الفضاء. كما أنّ التغيرات الجيو-سياسية في العالم قد تُؤثر على فرص "سبيس فورج" في الحصول على عقود جديدة، خاصةً في مجال التطبيقات الدفاعية. فالتعاون الدولي والاستثمارات المستدامة ستكون عوامل حاسمة في تحديد مستقبل هذه التقنية الواعدة.
الخاتمة:
تُمثّل شركة "سبيس فورج" مثالاً مُلهماً على الابتكار في مجال التصنيع الفضائي. فقد أثبتت إمكانية استخدام الفضاء في إنتاج مواد رقائق إلكترونية متطورة، مما يُفتح آفاقاً جديدةً لتطوير تقنيات المستقبل. لكنّ نجاح هذه الاستراتيجية يعتمد على تجاوز التحديات التقنية والهندسية الكبيرة، وبناء شراكات استراتيجية متينة مع الشركات والحكومات على المستوى الدولي. فمستقبل صناعة أشباه الوصلات يعتمد بشكل متزايد على الابتكار والتعاون العالمي للتغلب على القيود التقليدية واستغلال الفرص الجديدة التي يُقدمها الفضاء.