هل يُميت الذكاء الاصطناعي القراءة؟



هل يخلق الذكاء الاصطناعي مجتمعًا أميًا في المستقبل؟ دراسة في تبعات الاعتماد المفرط على تقنيات الذكاء الاصطناعي

27 يونيو 2025

آخر تحديث: 14:04 (توقيت مكة المكرمة)

مقدمة: عصر الذكاء الاصطناعي وشكوكه

شهد عام 2022 ميلادًا جديدًا في عالم التكنولوجيا، مع إطلاق شركة "أوبن إيه آي" لروبوت الدردشة "شات جي بي تي"، والذي أطلق العنان لعصر جديد من روبوتات المحادثة ونماذج الذكاء الاصطناعي المتاحة للجمهور. سرعان ما انتشر "شات جي بي تي" ليُصبح أداةً أساسيةً لكثيرين، مستخدمين إياه لإنجاز المهام الروتينية والمملة. لكن هذا الانتشار الواسع أثار تساؤلاتٍ جدية حول تأثيره المحتمل على قدراتنا المعرفية، مما أثار مخاوف من تدهور المهارات الكتابية والحسابية لدى المستخدمين. فهل نحن على أعتاب مجتمعٍ أميٍّ جديدٍ، أميٌّ ليس في معناه التقليدي، بل في معنى أعمق يتعلق بالتفكير النقدي والإبداع والمهارات الحسابية؟

المخاوف المتزايدة: ما وراء تراجع المهارات الكتابية

بينما تركز الكثير من المخاوف على تراجع المهارات الكتابية لدى الأجيال الجديدة، معتمدةً على الذكاء الاصطناعي في كتابة الأبحاث والتقارير، يرى ليف ويذربي، مدير مختبر النظرية الرقمية في جامعة نيويورك، في مقالٍ له في صحيفة "نيويورك تايمز"، أن الخطر الأكبر يكمن في مكان آخر. فليس تراجع القدرة على الكتابة هو التحدي الأكبر، بل هو الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في مهام أكثر تعقيدًا، مثل الحسابات المعقدة وكتابة الأكواد البرمجية. ويطرح ويذربي سؤالًا محوريًا: كيف يمكن أن يؤدي هذا الاعتماد إلى مجتمعٍ غير قادرٍ على أداء أبسط العمليات الحسابية أو كتابة أبسط البرامج؟

تجربة عملية: التلميذ والبرنامج

يروي ويذربي تجربةً لأحد طلابه، كان هذا الطالب يكتب برامجه الخاصة لتحليل البيانات الناتجة عن تجاربه العلمية. لكن بعد ظهور "شات جي بي تي"، تخلى الطالب عن كتابة البرامج الخاصة به، معتمدًا على روبوت المحادثة في كتابة الكود وتحليل البيانات، دون بذل أي جهدٍ في فهم العملية أو تحليل البيانات بنفسه. هذه التجربة تُلقي الضوء على الخطر الكامن في الاعتماد الكلي على الذكاء الاصطناعي، والذي قد يُؤدي إلى فقدان المهارات الأساسية في مجالاتٍ حيويةٍ مثل البرمجة وتحليل البيانات.

"فايب كودينج": موجة جديدة و مخاوفها

تُعزز هذه المخاوف تجربة أندريه كارباثي، مهندس الذكاء الاصطناعي، مع ما يُعرف بـ"فايب كودينج" (Vibe Coding). هذه التقنية تعتمد على توجيه أوامر صوتية إلى مساعدي الذكاء الاصطناعي لكتابة الأكواد البرمجية. وبالرغم من إعجاب الكثيرين بهذه التقنية، إلا أن الأكواد الناتجة غالبًا ما تكون معيبةً ومليئةً بالأخطاء، بل إن بعض المبرمجين، بمن فيهم كارباثي نفسه، اعترفوا بصعوبة كتابة الأكواد البرمجية بالطريقة التقليدية بعد الاعتماد على "فايب كودينج". وهذا يُشير إلى خطرٍ محتملٍ يتمثل في فقدان المهارات الأساسية في مجال البرمجة، والتي تعتبر حجر الأساس للعديد من التخصصات التكنولوجية.

تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل: هل يقضي على وظائف مهندسي البرمجة؟

يُثير هذا الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي تساؤلاتٍ حول مستقبل سوق العمل، خاصةً في مجال البرمجة. فبينما لا يبدو أن "فايب كودينج" قادرة على القضاء تمامًا على وظائف مهندسي البرمجة، إلا أن كبرى الشركات التقنية بدأت تعتمد على الذكاء الاصطناعي بشكلٍ كبيرٍ في عملياتها البرمجية. فقد أعلنت "جوجل" و"مايكروسوفت" أن أكثر من 25% من أكوادها مكتوبة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، وقد قامت هاتان الشركتان، وكذلك "أمازون" و"أوبن إيه آي"، بحملاتٍ واسعةٍ من تسريح العمال. وتُظهر هذه البيانات اتجاهًا عالميًا نحو الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي، مما يُثير مخاوفٍ من تراجع فرص العمل في مجال البرمجة، وقد يؤدي ذلك إلى انحسار المؤسسات التعليمية المتخصصة في هذا المجال.

الاستثمار في الذكاء الاصطناعي و انعكاساته

تُشير تقارير من مؤسساتٍ مثل "سيجنال فاير" و"زيكي" إلى توقف الشركات عن توظيف المبرمجين المبتدئين، وانخفاض عدد الوظائف الشاغرة في كبرى الشركات التقنية إلى الصفر تقريبًا. بينما ترى الشركات أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي ضرورةً مستقبلية، إلا أن هذا النفور من توظيف المبرمجين البشر قد يُؤدي إلى نتائجٍ عكسية، مماثلةً لما حدث مع العمالة اليدوية خلال الثورة الصناعية.

الأمية الجديدة: ما وراء القراءة والكتابة

كان مفهوم الأمية في الماضي يقتصر على عدم القدرة على القراءة والكتابة. لكننا الآن نواجه مفهومًا جديدًا للأمية، يتمثل في عدم القدرة على التفكير النقدي، واستخدام المفاهيم الرياضية والحسابية بشكلٍ إبداعيٍّ. فقد تُظهر الدراسات أن الاعتماد المفرط على أدوات الذكاء الاصطناعي يُؤدي إلى فقدان القدرة على الإبداع، والكتابة، والقراءة، وتحليل البيانات بشكلٍ صحيحٍ. هذا الاعتماد المفرط يُسرّع من الوصول إلى مجتمعٍ أميٍّ، أميٌّ ليس فقط في القراءة والكتابة، بل في التفكير والابتكار والحساب.

خاتمة: دعوة إلى التوازن

يُبرز هذا التحليل المخاطر المحتملة للثورة التكنولوجية الحالية. فبينما يُقدم الذكاء الاصطناعي فرصًا هائلةً، إلا أن الاعتماد المفرط عليه قد يُؤدي إلى نتائجٍ عكسيةٍ، مما يُهدد قدراتنا المعرفية، ويُؤثر على سوق العمل، ويُعرّضنا لمفهومٍ جديدٍ للأمية. لذلك، يُعدّ التوازن بين الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وتنمية مهاراتنا الأساسية أمرًا بالغ الأهمية، لضمان مستقبلٍ معرفيٍّ متطورٍ ومُزدهرٍ. يجب التركيز على تعليم الأجيال القادمة التفكير النقدي، وحل المشكلات، والإبداع، وذلك بالتوازي مع استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي كأدواتٍ مساعدة، وليس كبدائلٍ كاملةٍ لقدراتنا البشرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى